الشعر يعيد صنع الإنسان.. ومقولات أخرى حول غاية الأدب

تعددت وتنوعت وجهات النظر حول الغاية من الآداب والفنون، بحسب اختلاف الزمان والمكان والتطور التاريخي والثقافي للشعوب والبيئة الثقافية والاجتماعية للمبدع نفسه. وسنعرض في هذه العجالة لبعض الآراء.

مثلاً في القرون الوسطى كان الأدب يعتبر خادماً للدين، وعدّه بعضهم فناً خطيراً على الدين والأخلاق، ثم حصلت معارك بين أدباء ونقاد عصر النهضة ومتزمتين، وتقدموا بآراء عديدة مدافعين عن الشعر. وفي القرن السابع عشر حدث تطور اجتماعي وفكري في فرنسا وإنجلترا انتقل إلى أوربا ونتج عنه المذهب الكلاسيكي الجديد الذي استشهد نقاده بقول الناقد الروماني هوراس: إن الشعر يرمي إلى المنفعة واللذة معاً، وإن كانوا في الحقيقة يؤمنون بالرسالة الخلقية للأدب قبل كل شيء.

الناقد الإنجليزي صمويل جونسون الذي كان يكتب في القرن الثامن عشر قال: إن وظيفة الشعر أن يختبر الجنس لا الفرد وأن يلاحظ الصفات العامة والمظهر الكبير.

أما الناقد الإنجليزي الرومانتيكي كولردج فقال معرّفاً الشعر: ذلك النوع من التأليف الذي يضاد العلم في أنه يفترض أن توصيل اللذة لا الحقيقة هو غايته المباشرة.

محور أعمال الكاتب المجري إمره كرتيس الحائز على نوبل 2002 هو الأنا ويقول: توجد حقيقة واحدة فحسب، هذه الحقيقة هي أنا هي حياتي.. وتساءل: لمن يكتب الكاتب؟ الجواب واضح: لنفسه!

بينما تحدث الشاعر الإيطالي سلفاتور كواسيمودو الحائز على نوبل 1959 عن نمو الشعر الاجتماعي الذي يطمح إلى الحوار بدل الحوار الداخلي إذ قال: اليوم وبعد حربين عالميتين.. على الشاعر أن يعيد صنع الإنسان.. ما يعني انتقال الشاعر إلى موقف المشاركة بدل المراقبة، إلى الشعر الهادف باتجاه الخبرة الأخلاقية، حسب مترجم مختاراته فوزي كريم.

الكاتب إميل زولا الذي عاش في القرن التاسع عشر كان يقول في المراحل الأولى من إبداعه: ماذا تعنون بكلمة واقعي؟ أتفخرون بتصوير موضوعات عارية من الشعر والخيال ؟ وفي مرحلة متطورة من إبداعه انتقل إلى رؤيا أخرى تصب في أن على الروائي أن يستبدل بقلمه مشرط التشريح ليصبح محققاً وإكلينيكياً وعالماً، فاهتم بأثر البيئة على الفرد وبالسموم الخفية التي يحملها الدم الجاري في العروق، وجال في أدنى طبقات الحياة الاجتماعية ليصف الجماهير الشاحبة والأحياء الشعبية وبؤسها والطرقات المظلمة التي تتسكع فيها بائعات الهوى والحانات، فعكست مؤلفاته قضايا عصره.

الناقد حنا عبود في كتابه (النول والمخمل) قال: إن ملامسة القضايا الاجتماعية أمر محتوم على جميع الأدباء من السيرياليين حتى أعتى الواقعيين. وأضاف إن غاية الأديب خدمة الأدب، وإن صياغة المقولات الإنسانية كالحب والصداقة والغيرة والحلم هي مهمة أساسية للأديب، فهو يبحث عما هو خالد وأبدي.

لمناقشة هذا الموضوع مع أدبائنا التقينا بكل من الكاتب الروائي والقصصي الأستاذ عدنان كنفاني، والأستاذ الشاعر علي الطه. وحصلنا على هذه المداخلات:

الأدب مسؤولية

بداية توقفنا مع الأستاذ عدنان الذي قال: يفترض أن يحمل الأدب، من خلال الأجناس الأدبية، منظومات الحراك الأساسية في المجتمعات، ويفترض أيضاً أن يحمل، إلى جانب مسؤولية التوجيه الأخلاقي التربوي، تلك المؤشّرات التي تجعل منه أدباً، (الأدباء، والمعلومة، والحاجة، والأفق الاستشرافي الذي يدعم رغبة الانتماء إلى المكان والذاكرة والتاريخ) كلّ مجتمع حسب حاجته. والأدب مؤشّر الثقافة بالعام، والدال على مستوى الوعي، ولا بد أن يخضع للظروف التي يعيشها كل مجتمع، وقد أتيتِ على ذكر بعض ذلك التوجّه في أوربا، الذي تطوّر مع تطوّر نظم الحياة فيها. في واقعنا العربي، تتبدّل الحاجة المرجوّة من الأدب، لتدخل في منظومة الأولويات الملحّة، وأهمها كما أرى عاملان أساسيان، أحدهما خارجي، والآخر داخلي، فقدان الشعور بالسيادة، والشعور الدائم بالهزائم والاستلاب والفساد، إضافة إلى كم هائل ومتواصل من مؤامرات تستهدف الإنسان والأرض والثروات تفرض على الأدب أن يحمل مسؤوليات وأعباء أكبر، وعندما يفشل في ذلك على خلفية سطوة السياسي، والإلغاء، يجنح إلى التقوقع حول الذات، ولا يؤدي الوظيفة الطبيعية المفترضة. إن ما تعانيه أمّتنا يفرض على حملة الأدب أن يتحلوا بالصبر ومواصلة التدفق في مسعى إصلاح عام للفكر المنحرف الذي يعبث بمصير الأمّة، وإيقاظ الوعي الوطني والقومي كي نحقق وجودنا كأمّة تستحق الحياة، وأعني بحملة الأدب: (الأدباء) الأنقياء البعيدين عن مكاسب الذات والمتطلّعين لسموّ القيم الداعمة للصمود وحتى قطف ثمار النصر، ثم ندخل في موضوعة (الترف الأدبي) إذا صحّت التسمية.

الأدب خطاب الوجدان

على الضفة الأخرى يرى الشاعر علي الطه أن الهجس الأدبي في الدرجة الأولى جمالي وما تبقى حمّال أوجه.إذ تقاس نسبة التماهي والتوتر والاختلاف إبداعياً، وكلما كانت مباشرة قل نصيبها من الإبداع. ويضيف: أنا لا أعتقد بوظيفة اجتماعية للأدب، أعتقد أنه على مسافة ما من قضايا ما، ولكن المبدع دائماً وجدان وبوصلة ويموت كل خطاب ليبقى خطاب الوجدان وما تبقّى أشياء ترهق الأدب وغالبا تسيئ للقضايا أكثر مما تفيدها. هناك فرق كبير بين أن تكون صوت الجماعة وأن تكون صوت ضميرها. وحده الجمال يبقى وما تبقّى عابر ولا يراهن عليه. فرق كبير بين الصدق الفني والواقعي، فالواقعي مباشر وسطحي ودعائي وعابر، والفني عميق ويبقى.

العدد 1104 - 24/4/2024