«البولتافا» لبوشكين: حين انطلق الشعر الروسي بخيانة وغرام مجنون

إذا كان الكاتب الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي اعتاد أن يقول: (إننا نحن معشر الروائيين إنما طلعنا جميعاً من معطف غوغول)، فإن في إمكان القسم الأعظم من الشعراء الروس في القرن التاسع عشر، على الأقل، أن يقول إن شعره إنما طلع من غنائيات بوشكين. ذلك أن هذا الأخير، والمعتبر عن حق، المؤسس الحقيقي للأدب الروسي الحديث، لعب في الشعر الدور نفسه الذي لعبه غوغول في الرواية. وهو اعتمد في هذا، على تلك الأجواء، والمواقف التي كان تعلّم باكراً كيف يخلقها، مستخدماً إياها في نهاية الأمر، عناصر (خبطة مسرحية) تأتي مفاجئة بعد تسلسل بطيء في التعبير عما يجري. وينطبق هذا على مسرحيات بوشكين كما على نصوصه الروائية والشعرية، إذ نحن لو قلّبنا عوالمه التي نعرفها في أذهاننا، فسنجد هذه العوالم مملوءة، مثلاً، بأشياء تشبه فارساً برونزيّاً يطارد بيروقراطياً في شوارع بطرسبرغ، أو سنجاباً يجلس داخل قفص من البلور يقشر حبات لوز باحثاً عن زمردة داخل النواة الذهبية، أو بائع توابيت يجلس ليلة الميلاد حول مائدة عشاء دعا إليها كل زبائنه الذين سبق لهم أن شغلوا ما باع من توابيت… كل هذه المواقف التي لا شك في أنها أثارت إعجاب غلاة السورياليين في القرن العشرين، وغيرها من المواقف التي تنتشر بكثرة في كتابات بوشكين، تشكل العالم الشعري لذلك الكاتب الكبير الذي، على رغم أنه لم يعش سوى ثمانية وثلاثين عاماً، أبدع للأدب الروسي روائع لا تنسى، بل إن بعض روائعه يعتبر من قبيل التراث القومي بما يحتويه من مواقف وطنية أسّست لارتباط الأدب بحياة الشعب وتطلعاته المستقبلية، ونظرته إلى ماضيه. وفي هذا الإطار قد يكفينا أن نذكر أعمالاً مثل (أوجين يونيغين) و(البوهيميون) و(حكاية البابا وتابعه بالدو) وغيرها من أعمال سيقال دائماً إنها عرفت كيف تجمع بين عوالم (مؤسس) الرواية التاريخية سير والتر سكوت، وعوالم الأخوين غريم، الألمانيين اللذين أبدعا في حكايات الأطفال، مع تساؤلات دائمة عما إذا كان بوشكين عرف حقاً أعمال هؤلاء الكتاب، في واحدة أو أكثر من اللغات التي يتقنها، لا سيما لغته الأم الروسية التي كان مجدداً فيها، أو الفرنسية التي لم يتوانَ عن أن يكتب فيها بعض نصوصه ورسائله، فكان أن أدهش الفرنسيين حين اكتشفوها وأدركوا مقدار رهافته في استخدام شديد الحداثة للغتهم.

ومهما يكن من أمر، فإن جزءاً من أهمية أعمال بوشكين يكمن في استخدامه حريته التعبيرية في تعامله مع حكايات وأساطير قديمة ترتبط بالفولكلور المحلي، لا سيما بفولكلور الموجيك الريفي. وكذلك بالتاريخ الروسي، إذ عرف بوشكين كيف يمزج في أعمال عدة له بين هذا التاريخ (الواقعي) وأجواء الفولكلور (الأسطورية) ورؤاه الذاتية. وفي هذا الإطار يبرز عمله (البولتافا) استثنائياً وذا دلالة، لأنه – حتى وإن كان لا يعتبر عادة من أكبر أعماله – قدّم ذلك المزيج الخلاق الذي أبدعه بوشكين ولجأ إليه كثر من بعده، وليس داخل إطار الأدب الروسي نفسه.

و(البولتافا) التي نشرها ألكسندر بوشكين في الوقت نفسه الذي كان منكباً فيه على كتابة واحد من أعماله الكبرى (أوجين يونيغين)، أي في عام 1828 عبارة عن قصيدة طويلة تتألف من ثلاثة أناشيد، وتروي فصلاً تاريخياً من فصول الماضي الروسي المعقّد والعميق في آن واحد. فالإطار التاريخي للقصيدة هو النضال الوطني الذي خاضه بطرس الأكبر وقادة جيوشه ضد ملك السويد شارل الثاني عشر الذي أتى إلى روسيا غازياً مدمّراً، في وقت كانت الصراعات داخل روسيا، من الضخامة بحيث سهلت للعدو عمله. ولئن كان بوشكين اختار هذا الإطار التاريخي القومي الذي يحفظه كل روسي عن ظهر قلب، فإنما لكي يقدّم من خلاله حكاية حب شديدة الرومنطيقية، لم تَحُلْ سيطرتها على العمل ككل، من دون بروز العنصر التاريخي، لا بصفته إطاراً فحسب، بل بصفته جزءاً أساسياً من الموضوع. وبطلة قصة الحب الرومنطيقية في (البولتافا) هي الصبية الحسناء ماريا، ابنة كوتشوباي الذي يعمل في خدمة القيصر ويعتبر من مساعديه الأوفياء. والمشكلة هنا هي أن ماريا وقعت، من دون أي مبرر، في غرام القائد العجوز ماتزيبا، رئيس مقاتلي الكوزاك. ويصل بها هواها إلى حد الفرار من منزل أبيها لكي تعيش لدى حبيبها العجوز… وهنا يقرر كوتشوباي، وقد استبدّ به الغضب الشديد إزاء ما حدث، أن ينتقم من ماتزيبا ويخلص ابنته من هذا الغرام الذي يسيء إليها وإليه هو. بيد أن ماتزيبا يتمكن من كوتشوباي، إذ يتهمه بأنه يخون سيده القيصر ويتواطأ مع الأعداء السويديين ويتصل بهم… وبهذا يسجنه في القلعة ويأمر جنوده بأن يسوموه آيات التعذيب… لكن ماتزيبا كان شريراً مرتين هنا، ذلك أنه هو نفسه الذي كان طوال ذلك الوقت يقيم اتصالات مع الأعداء بغية تسهيل انتصارهم على القيصر طامعاً في أن يكون له الحكم من بعده… وفي خضم هذا كله يحدث أن يتنبه ماتزيبا فجأة إلى خطورة ما يقوم به، ويبدأ في داخله صراع عنيف، من المؤكد أن الفقرات التي تصفه في هذه القصيدة هي أقوى ما فيها، لا سيما تلك الفقرات التي تصوّر لنا العجوز ماتزيبا وقد نهض من فراشه وسط الليل البهيم تطارده الأشباح والأفكار السود، ويروح متجولاً في حدائق القصر وقاعاته وقد استبدّت به هواجسه وضروب القلق والحيرة، يفكر بما فعل وبما بقي عليه ليفعله… وذات لحظة خلال واحدة من تلك الجولات التي تمزق القائد العاشق العجوز يحدث أن صرخة عنيفة تطلع لتمزق هدوء الليل، داخلة مباشرة إلى فؤاد كوتشوباي الملتاع: إنها صرخة كوتشوباي الذي كان الجنود يعذبونه في تلك اللحظة للمرة الأخيرة قبل أن ينفذوا به حكم إعدام صدر في حقه بسبب (خيانته). أما العاشقة الضالة الحسناء ماريا، التي كانت أُخطرت بموعد تنفيذ الحكم بإعدام أبيها قبل دقائق فقط، فإنها أمام ذهولها تعجز عن إنقاذه، إذ يدهمها الوقت.

في تلك الأثناء تكون المعركة الكبيرة بين بطرس الأكبر وجيوش السويديين الغزاة بدأت، وهي المعركة المعروفة باسم (البولتافا)، التي أعطت القصيدة اسمها… ويحدث خلال تلك المعركة أن يلحق القيصر الروسي بجيوش شارل الثاني عشر السويدي هزيمة ساحقة ترده على أعقابه. ويكون من آثار ذلك أن يضطر العجوز الخائن ماتزيبا إلى الهرب: لكنه قبل رحيله، يجد نفسه فجأة في مواجهة ماريا التي تلتقيه هنا للمرة الأخيرة، في مشهد يحمل عند بدايته مقداراً كبيراً من الالتباس الخلاق: فهل أصيبت ماريا بالجنون، أم أنها لا تزال عاشقة متيّمة لهذا القائد الخائن؟ إن بوشكين حرص هنا على ألا يضفي على هذا المشهد أي طابع واقعي، بل جعله أشبه بحلم خيالي نرى فيه ماريا وهي تتوسل إلى ماتزيبا أن يأخذها معه لكي تقاسمه أحزانه وبؤسه… وهنا فجأة، تسقط كل الأقنعة: ترى ماريا ماتزيبا على حقيقته الصارخة التي كان فؤادها معميّاً عنها من قبل: تراه مجرد عجوز كريه ودموي… هكذا، تبتعد عنه متراجعة وعلى وجهها ملامح ضارية فيما تنبعث من فمها ضحكة مجنونة…

لفترة طويلة من الزمن كانت قصيدة (البولتافا) واحدة من أشهر قصائد بوشكين، وأشبه بنشيد قومي روسي… إلى درجة أنه إذا كانت أعمال كبيرة له صنعت مكانته، فإن (البولتافا)، صنعت شعبية هذا الشاعر الذي ولد في موسكو عام 1799 ليموت فيها خلال مبارزة في عام 1837 بعدما كان كتب بعض أجمل روائع الأدب الروسي، روايات ومسرحيات وحكايات أطفال، مؤكداً دائماً أنه إنما ينتمي إلى سلالة قياصرة هذا الوطن الذي (لا أريد أبداً أن أبدله، ولا أن أبادل بتاريخ أجدادي فيه أي تاريخ على الإطلاق)… ويقيناً إن أعمال بوشكين تعكس هذا الموقف بقوة… وهي ظلت حية ولا تزال حية حتى الآن، لقوتها التعبيرية واللغوية المؤسسة، ولكن أيضاً لارتباطها بذلك التاريخ.

 

عن (الحياة)

العدد 1104 - 24/4/2024