عندما تتصدع البنية الثقافية وتدمر المعاني…؟

ذاكرة التاريخ تقول: إن (نيرون) بعد حريق روما الشهير وقف على شرفة قصره بين بعض أفراد حاشيته  يتمتع بمشاهدة الحرائق والنيران… ثم التفت فجأة إلى جواره، فوجد الفيلسوف (ليموزيس) يبكي بكاءً مرّاً، فسأله (نيرون) ساخراً: أتبكي حزناً على روما يا (ليموزيس)؟ فأجابه الأخير: أبداً يا (نيرون)، لستُ أبكي حزناً على روما، فروما ستجد يوماً من يعيد بناءها، ستجد من يعيد تشييد مبانيها، وربما بشكل أجمل وأفخم وأحدث.. لكن الذي يؤلمني، ويحزنني، ويبكيني أني علمتُ أنكَ قرضتَ شعراً رديئاً.. لقنته للناس، وفرضته عليهم.. فقتلْتَ بهذا الشعر الرديء المعاني فيهم.. وعندما تُقتل المعاني في شعب (..؟) هيهات أن تجد من يعيدها إلى النفوس.. هيهات أن تجد من يعيد غرسها في الصدور…

 وذاكرة التاريخ تروي أن الكاتب اللاتيني (بترون) مستشار الإمبراطور الروماني (نيرون) والشاهد الأكبر على كل الجرائم التي اقترفها هذا الأخير بحق المجتمع اللاتيني على الصعيدين الخاص والعام( … ) قد انتحر في بيته احتجاجاً على إحراق روما، وعلى الغناء وإنشاد الشعر على أطلالها. وقد بيّن (بترون) ذلك قبل انتحاره، عبر رسالة أرسلها إلى (نيرون) قال فيها ما معناه: لقد سكتُّ على جرائمكَ كلها بما فيها قتل أمك وزوجتك (..؟) ولكن أن تحرق روما، وأن تغني وأن تقول الشعر وتنشده (..؟) فهذا ما لا يمكن السكوت عنه في أي حال من الأحوال، والحياة تصير وقتئذ عبثية بائسة لا قيمة لها…

بداية نقول: عندما تتصدع البنية الثقافية (الثقافة بمعناها الشامل)، في أي بلد من البلدان، تتصدع معها البنى الأخرى كلها. وعندما تسطّح المسائل والقضايا الحيوية لأي أمة من الأمم… تسطّح معها الأمة من ألفها إلى يائها. وعندما تدمر المعاني وتقتل في أي شعب من الشعوب، فإن جميع الحقول المعرفية والإبداعية والحياتية.. تتداعى وتنهار على المستويين الفردي والجماعي.

إن (التسطيح) الذي يقوم به الكثير أو القليل من المثقفين والسياسيين.. عن قصد، وعن سابق تصوّر وتصميم، وبشكل مبرمج وممنهج، لهو فعل تدميري سرطاني … وتدمير المعاني ينتج عنه، حتماً وبالضرورة، تدمير ثقافي يتولد عنه تدمير إنساني (….) وقراءة المعطيات التاريخية بفروعها المختلفة تشير بلا مواربة إلى أن هزيمة أي أمة هزيمة كاملة على الصعد السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية… تستدعي أولاً هزيمتها على الصعيد الثقافي/ المعنوي (تاريخاً وتراثاً وقيماً، فكراً وعقلاً وروحاً وأخلاقاً وذوقاً، عاطفة ووجداناً ونفساً وسلوكاً…).

والناظر إلى الواقع العربي الراهن يرى بوضوح وجلاء أن الجهات الثقافية، والمنابر السياسية في كثير من الأحيان وعلى وجه الإجمال، لا تعمل على خدمة الثقافة العربية والإنسان العربي وصيانة حقوقه المعنوية والمادية.. بل تقوم عبر نشاطاتها المختلفة بالاستعراض والبهرجة والبهلوانية.. وغاياتها إعلامية، تضليلية، تسطيحية… ففي حين عجزت البلاغة والفصاحة عن وصف الجرائم التي اقترفها ويقترفها الإسرائيليون الصهانية قبل تأسيس كيانهم وحتى هذه اللحظة التاريخية المعربدة التي نعيشها.. وفي الحين الذي حققت فيه المقاومة الوطنية اللبنانية انتصاراً مباركاً لم يعرف أو يشهد تاريخ الصراع العربي ـ الصهيوني مثله، هذا الانتصار الذي أحرج، بل فضح أغلب الأنظمة الرسمية العربية (وجيوبها هنا وهناك) التي (منحت إسرائيل) المزيد من الوقت كي تتمكن من القضاء على حزب الله، والتخلص نهائياً من المقاومة، أو على أقل تقدير كي تحقق انتصارات ميدانية عليها تجعل (إسرائيل) سيدة القرار والقول الفصل… وفي الوقت الذي تتعرّض فيه سورية ـ داخلياً وخارجياً ـ لهجمة بربرية تدميرية دموية فاشية على جميع المستويات… تستدعي على الجبهة الثقافية (إلى جانب الجبهة العسكرية) التصدي بوعي وجدارة لهذا الفكر التكفيري الخارج من الظلمات، وتستدعي ثقافة وطنية تقدمية منفتحة تناهض وتواجه، بلا هوادة، الثقافة الرجعية المنغلقة التي لا ترى إلا نفسها المجرمة الآثمة … وفي الحين الذي تقف فيه اللغة عاجزة عن توصيف ما ارتكبه ويرتكبه الإمبرياليون والصهاينة من الجرائم والإبادة الموصوفة بحق الإنسان العربي،وغير العربي، في هذا البلد أو ذاك، والتي تشكل انتهاكاً فاضحاً للحقوق والمبادىء الإنسانية والأعراف والمواثيق والشرائع الدولية والدينية والأخلاقية.. في هذه الأحايين كلها نرى الأقلام التسطيحية والألسنة التدميرية تدعو من خلال المقروء والمسموع والمنظور، إلى ثقافة (السلام) وتضعها فوق ثقافة العدالة، وتقوم بتزييف الحقائق وتشويهها، وتسوّغ العدوان، وتبارك الجريمة والأنظمة (المعتدلة) والصمت العربي الرسمي… وتوجه سهامها الفاجرة إلى ظهر كل ممانع ومقاوم وشريف… وتتهافت في حديثها الداعر عن (الديمقراطية والحرية والسيادة…) وثقافة (الحياة) وثقافة (نريد أن نعيش (؟!) كفى.. لانريد حروباً… لا نريد ثقافة الكراهية والظلام والموت…) (؟!) ويتم توظيف ذلك كله لحسابات خاصة داخلية وخارجية.

لقد وصلت الأمور إلى حدّ لم يعد بالإمكان أن نفرق فيه بين مواقف هؤلاء وبين المواقف الصهيونية والأمريكية والعديد من الأنظمة العربية، بل نستطيع أن نذهب خطوة إلى الأمام فنقول: إن الخطاب الثقافي والسياسي لهذه الأقلام والألسن والخطاب (الإسرائيلي) ـ الأمريكي، وخطاب أغلب الأنظمة العربية، وخطاب بعض (الأطراف) العربية في هذا البلد أو ذاك وصل إلى حد التطابق الكامل (…)، وهذا التطابق هو خيار ثقافي ـ سياسي وليس تقاطعاً أو مصادفة…

العدد 1104 - 24/4/2024