غربة الكاتب بين أشكال الحصار العلنية والخفية

إحساس الكاتب بالغربة شديد الإيلام، وهو لا يدري أي الاسباب أكثر توليداً لهذا الإحساس: أهو حضوره القوي برغم سعي قوى نافذة إلى تغييبه؟ أم هو احتفاظه برؤية مستقلة ونفس حرة رغم أشكال الحصار العلنية والخفية؟

أم هو امتلاكه لأدواته الفنية وتجديدها، وهذا يجعله غير مفهوم ومثيراً للسجالات النقدية؟ وأرى أن الغربة هي ضريبة الإبداع الحقيقي.

تعالوا نجُلْ على مبدعين رحلوا وهم يحسّون غربة موجعة: التوحيدي وعزيز نيسين ويوسف إدريس وسميح القاسم وسعد الله ونوس، كانوا يسقطون الأقنعة ويصارعون الموت في كل خطوة وكل صفحة وكل إشارة، وكانوا مثل طيور النار أو طيور الفينيق أو طيور الرعد، يقضّ مضاجعهم مشروع وطن لا متسع فيه لابتسامة أو لتعبير ساخر.

فهذا التوحيدي يشير إلى محنته وغربته المركبة ويقول: الغريب من إذا ذكر الحق هجِر، وإذا دعا إلى الحق زجر، الغريب من إذا أسند كُذِّب، وإذا تظاهر عُذِّب، وإذا امتار لم يمر، وإذا قعد لم يزر، يا رحمتا للغريب: طال سفره من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب، واشتد ضرره من غير تقصير، وعظم عناؤه من غير جدوى. (الإشارات الإلهية ـ ص 84).

وهذا عزيز نيسين الكاتب التركي  (1915 – 1995) الذي هز بقصصه الساخرة ومسرحياته واقع بلاده، وسخر من الطبقة السياسية الفاسدة، وعانى سوء الفهم والملاحقة والسجن والإيقاف عن النشر، وتوقيف صحف ومنع كتبه، نراه يصور غربته في رسالته التي وجهها إلى زائره الافتراضي الأخير (الموت) عام 1974 وهو في التاسعة والخمسين، يحاوره كندّ، ويسخر منه ومن كثيرين يغارون من نجاحه، ويشتهون موته، يقول لهذا الزائر الثقيل:

(إنك واحد من أكثر حقائق الحياة حدّة وحتمية، ولا مجال معك لأي نوع من المناورة والمداورة، أنت تعرف أنني لم أشعر بالغيرة من أي من الذين عاصروني، حياتي كلها، لا لأنني طيب القلب، بل لأنني لم أر أحداً منهم أكبر مني.

وتعرف أيضاً أنني كثير الاعتزاز بما فعلت، وبما خططت له، ولم أستطع تحقيقه فإذا أخفقت في إنجاز المشاريع التي خططت لها خلال الفترة التي أمهلتني فيها، فإن الذنب في ذلك لا يقع على أحد سواي، أنا هو المذنب الوحيد.. هذه العقوبة تكفيني، إنها أثقل من العقوبات لدى الذين يحسون مرارتها.

حياتي كلها أمضيتها وأنا في صراع معك ندّاً لندّ، كثيرةٌ هي المرات التي انتصرت فيها، وكثيرة أيضاً المرات التي تلقيت الهزيمة.. إنني لا أريد أن أستسلم.. أريد أن أقدم لك روحي كما لو كنت أقدم هدية تذكارية.

أريد أن أكون جديراً بالموت مثلما كنت جديراً بالحياة.. اعترف لي بهذا الحق.. إنني بذلت ما استطعت من جهد لأضيف ألواناً من الجمال إلى هذا العالم الملآن بعدد لا حصر له من آيات الجمال، تسألني: ماذا فعلت: إليك جوابي!

سيميائيو العصور الوسطى عجزوا عن تحويل الحجر إلى ذهب، أما أنا فسيميائي، نجحت في تحويل دموعي إلى ضحكات قدمتها للعالم!).

ولا يحس قسوة الغربة على الكاتب في ليله ونهاره، وأثناء عمله أو في تأمله، أو خلال شروده أو صحوه إلا من احترق بنار التجربة واحترف الكتابة، وغربته أقسى بكثير من غربة المهجّر في الحروب والصراعات، أو المبعد مكانياً عن مسقط رأسه من أجل العمل والعيش.

يقول الشاعر غليبارتسر واصفاً تشرده الرمزي، وغربة الكاتب المركبة:

نحن، لدينا مغتربان، ولا وطن/ مشردون في اللغات الخبيئة/ تقضّ مضاجعنا الريحّ

(عالم الأمس ـ ستيفان تسيفايج ص 412.

وغربة سعد الله ونوس طائر الفينيق السوري، وسميح القاسم طائر الرعد الفلسطيني هي الأقسى في زمن التشوه والأقنعة المتراكبة والسمسرة والبلاهة القطيعية والجحود، إذ دخل الموت بأدواته كلها على خط حصارهما، وأدخلهما في سباق لا يعرف الرحمة مع الزمن، لكنهما لم يقعا تحت تأثير الهلع من اقتراب نهاية رحلتهما، وأهديا القراء مسرحيات مثل (طقوس الإشارات والتحولات) و(الأيام المخمورة)، وقصائد تحولت إلى أناشيد متجذرة في الذاكرة الشعبية، وفي رحم الأرض، مثل قصائد قميصنا البالي، وسقوط الأقنعة. وطائر الرعد!

في قصيدة (قميصنا البالي) من مجموعة (دمي على كفي) يقول القاسم:

لم تفهمي/ وصغيرك الغالي/ لم يدر أن قميصه البالي/ ما دام يخفق في رياح الحزن والشدة ستظل تخفق راية العودة/ فخذي أخاه وأفهميه/ أن المذلة أن يبيع ثرى أبيه/ وأفهميه/ أن اختلاج الروح في البذرة/ أقوى من الصخرة!

وفي قصيدة (سقوط الأقنعة) التي تحمل المجموعة اسمها، يقول:

سقطت جميع الأقنعة/ فلأي رب بعد هذا اليوم تلجأ أي رب؟/

سيبارك النابالم واللحم الممزق/ لحم شعبي/ منذا يبيعك صك غفران/ ونابك في ذراعي؟/

يا من تخاف من الشعاع/ يا من يعز عليك نبض الخصب في أرض الجياع

وفي قصيدة (طائر الرعد) تفاؤل وثقة بقدوم طائر الحرية من قلب المأساة، يقول:

ويكون أن يأتي/ يأتي مع الشمس/ وجه تشوه في غبار مناهج الدرس/ ويكون أن يأتي/ بعد انتحار الريح في صوتي/ شيء ودائعه بلا حد/

شيء يسمى في الأغاني طائر الرعد/ لا بد أن يأتي/ فلقد بلغناها/ بلغنا قمة الموت!

أما غربة يوسف إدريس فهي الأغرب والأقسى، لأنه استشعر تخلعاً مزمناً وإرثاً من الخنوع فرضته حقب سود، حاولت تشويه الثقافة وطمس معالم الشخصية العربية، والمشرقية، ورأى أن محاولة الكاتب إحياء هذه السمات الإنسانية للشخصية المصرية تدخل الكاتب في حقل ألغام، وأن أي اقتراب من القاع الشعبي والكشف عن كنوز ثقافته أو تشوهات وعيه هي أقرب إلى لائحة اتهام توجه لا للسلطات وحدها بل للقرن العشرين كله على حد تعبير جون كينيدي تول في روايته (تحالف الأغبياء).

في قصته (الغريب) ما يستحق التأمل والدراسة المتأنية لمعرفة غربة الكاتب القاسية، وهي القصة الأخيرة والأطول في مجموعته (آخر الدنيا)، واللافت فيها أن الغريب أبا محمد شخصية قوية الحضور وملهمة. ومزعجة للسلطات، ولكنها غامضة وغير مرئية، وهي مثل الحقيقة قريبة بعيدة.

الشوربجي زميل الراوي في الدراسة، قص على زميله حكاية الغريب، وعم خليل علمه كتابة القصص، ولم يكتبها، لأن حديثه، أجمل حين يقص حكاياته، الغريب أبو محمد، ابن الليل الذي دوّخ المأمور، وكان معروفاً أنه يقتل السجناء ـ كي يوفر على نفسه العناء، ويوفر على السلطة إطعامهم.

اختار الغريب أن يكون مختلفاً عن المزاج السائد الخانع، ويواجه السلطة المستقوية المستبدة. ويعلق الشوربجي قائلاً: سيظل هناك أولاد ليل ما دام هناك ليل، منذ الأزل كان الغرباء، وإلى الأبد سيظلون، ومنذ الازل وأشد العقاب ينزل بهم، ورغم العقاب يعودون يوجدون… ويضيف: ربما لو عرف الناس بعضهم بعضا| معرفة وثيقة، ما جرؤ أحد على قتل أحد، وما خاف أحد من أحد ص 544.

الشوربجي المراهق اهتدى إلى مكان الغريب، وطلب منه أن يعلمه القتل، لأنه يريد أن يقتل أحداً، أي أحد، لا لشيء إلا لأن شيئاً مبهماً يدفعه إلى ذلك، والأقدر على تعليمه هو الذي تعجز السلطات عن الإمساك به. وهو مطلوب (بجريمة) قتل المأمور، وبقتل شلبي المؤتمن على أسراره بعد أن اكتشف خيانته، بوجود الشوربجي، ونيته لخطف زوجته وردة.

ملازمة الشوربجي للغريب لم تعلمه القتل الذي يريده، ولكنها علمته شيئاً آخر هو الشعور الإنساني المتجذر في المنظومة الأخلاقية الشعبية،   والشعور الجمعي بقيمة الإنسان وحقه في الحياة والعمل والابتسام، وحين طلب الشوربجي من الغريب أن يعلمه القتل، وأداته جاهزة في يده، قال له الغريب: طيب، هيا اقتل أول قادم على الجسر، وإذا لم تفعل قتلتلك، وحين قدم فلاح على دابته يغني في الليل، وأنغام أغنيته لامست قلبي الغريب والفتى، لم يجسر الشوربجي على إطلاق النار، وبعد ابتعاد الفلاح قال الغريب للفتى: لو قتلته لقتلتك، اذهب إلى أهلك فهم أحق بأن تكون قريباً إليهم مني.

المعرفة جرح، والقصة خشبة إنقاذ، وغربة الكاتب ستطول وستتناسل ما دامت الكتابة فعل مواجهة، وإضافة جمالية إلى عالم تضيق فيه فسحة الأمل، وقدرة على تحويل المعاناة والألم إلى أمل.

العدد 1105 - 01/5/2024