«الفيزيائي»… سقوط الحضارة تحت سنابك الجاهليين

دمغ وارثو قابيل عالم الأثقال بتقلبات الأهواء والمطامع، فتواترت أحوال الممتحنين بين غالب ومغلوب. وكان لكل حضارة نصيبها من الإشراق والمغيب، وحصصها المقدرة من غلو الآراء وصراع المبادئ والمصالح.. وما بين صعود النجوم وخفوتها تكفلت ثلة قليلة بإيقاد القناديل،  في مسالك المتعثرين والمنكوبين. فكان منهم الحكماء والأطباء الذين ثمّنوا هبة الإنسانية وقدسية الروح، وبذروا التعاطف في القلوب المتلهفة للرحمة. وتلك هي المساحة الأجمل في صيرورة الفيلم الألماني «الفيزيائي».

أتخمنا المخرج الألماني فيليب ستولز منذ البداية بروعة مشاهده التصويرية الخلابة التي التقطت في محيط مدينة برلين لتحاكي ببراعة مدهشة الريف الإنكليزي في عام 1021 م. وبدت بدائية الطبيعة منسجمة تماماً مع إسقاطات الفقر وتبعات الجهل بأبسط قواعد الحضارة الإنسانية، بدءاً من المحاكمة العقلية السليمة وانتهاء بالقذارة الجسدية والأخلاقية. بالمقابل عكست المشاهد المصورة في المغرب محاكاة للحضارة الاإسلامية في إيران، سمواً أخلاقياً صهر المتناقضات الإنسانية في بوتقة الحرية الفكرية والدينية.

تدور حكاية الفيلم حول معالج شاب يدعى روب، ارتحل من إنكلترا عبر العالم ليتتلمذ على يد الطبيب المشهور ابن سينا، الذي جمع في فكره خلاصة الفلسفة اليونانية القديمة وجوهر الحكمة والسماحة في الدين الإسلامي، ومارس عمله طبيباً ومعلماً تحت مظلة الشاه الإيراني وحمايته. وأنشأ مدرسة متقدمة تؤهل المتدربين عقلياً وفكرياً وإنسانيا قبل تلقينهم مبادئ الطب. فذاع صيته في أرجاء المعمورة حتى اخترق ظلمات الأراضي الإنكليزية عن طريق المعالجين اليهود، الذين احتكروا لأنفسهم أسرار التداوي.  فيتخفى روب بزي اليهود ويقدم على ختان نفسه، لأن عالم المسلمين بقي موصداً في وجه المسيحيين، بعكس اليهود الذين مارسوا طقوسهم الدينية في إيران ونالوا حقهم في التعلم ومزاولة مهنة الطب.

يركز الفيلم ضمنياً على مأزق التزمتّ الديني الذي يرخي بظلاله السوداء على المجتمعات الأوربية الحديثة الحاضنة للإسلاميين المتشددين وقياداتهم، كنتيجة حتمية لاستعمار العالم القديم ونسف أسسه الحضارية، وخنق هويته الثقافية لتحويله إلى تجمعات العبودية المعاصرة.. فأول من يقابل روب عند وصوله إلى طهران، تلميذ حاقد متزمت يكحل عينيه على طريقة الأصوليين، ويأمر أتباعه بضربه رغم إعياء السفر البادي عليه. لكن رأفة ابن سينا تتكفل بتضميد جراحه وقبوله متدرباً يهودياً مستجداً، يشفع له ذكاؤه ورغبته الجارفة بالتعلم. فتبدأ صداقة مميزة بين روب المسيحي المتخفي ومضيفه اليهودي وزميله المسلم المتمرد، على خلفية تظهر دسائس الأصوليين المحليين واتصالهم السري بالسلاجقة المعروفين رعاعاً همجاً.. بينما يظهر الشاه الشاب طاغية تكفّل والده بقتل إنسانيته في طفولته، كي يعلمه الحزم والبأس اللازم لضبط المتشددين الذي يهددون في كل لحظة التعايش السلمي اليهودي الإسلامي. بالمقابل يمنح الفيلم للمعالج جرأة استثنائية تؤهله لتجاوز الحرمة التي تكفلها الذهنية الإسلامية واليهودية للجسد البشري، التي منعت تشريح الموتى. ويتكئ هنا على شخصية المحتضر الزرادشتي العجوز، الذي يطلب من روب تقطيعه بعد موته ورميه على قمة الجبل طعاماً للعقبان، في تبطين واضح يسخر من خوف أتباع الديانات السماوية على أجسادهم الميتة، يفسره كجهل بماهية البعث الأخير، ويسميه حرصاً مبالغاً على مآل عظامهم لاستخدامها كوديعة احتياطية.. وهذا التصريح الجريء يسقط حاجز الرهبة والخوف أمام هيبة الموت، فيقدم المعالج على تشريح الجثة خفية، ليستخدم خبرته في منح الشاه المحتضر، وقتاً إضافياً لمحاربة السلاجقة في معركة خاسرة، تخلد أيقونة الطاغية/الصديق.. إذ يخبر الشاه قبل موته معالجه روب عن الممر الآمن ليهرب بصحبة اليهود، مصطحبين معهم الكتب النادرة تاركين الشرق يغرق في بحور الظلمات.. بالمقابل يكمل ابن سينا مأثرة الشاه فيحترق مع مدرسته وكتبه التي داستها سنابك السلاجقة وأزلامهم، في احتجاج صامت على تبدد الحلم الإنساني بحرية العقل. لذلك اعتُبر الفيلم معادياً لإسلام التكفيريين، ومتبنياً لصورة اليهود بوصفهم ناقلين  للخميرة الإنسانية..

العدد 1104 - 24/4/2024