نبوءة شاعر وحكاية الفتح

الشاعر العراقي أحمد مطر – كغيره من الشعراء السياسيين- يمتلك نبوءة لا يقوى على امتلاكها السياسي أو الاقتصادي أو أدعياء (البحث الاستراتيجي)، والشاعر إن لم يمتلك هذه النبوءة فقد يكون من مصاف النظّامين الذين يغص بهم تاريخ الأدب، وتمتلئ بأشعارهم المصنفات والدواوين، ولسنا اليوم بحاجة الى هؤلاء.

ولد الشاعر أحمد مطر في العراق -البصرة- 1954 م، عانى من الاستبداد السياسي والآخر غير السياسي في بلاده، فارتحل على ثلاثة مستويات : الأول داخل العراق من مدينة الى أخرى باحثاً عن الدفء الوطني، والثاني داخل العالم المسمى عربياً »الكويت« حيث عمل في الصحافة، والثالث كان في العالم الأوربي »المستعمر« الذي وجد فيه التقدميون العرب مُراحاً لأحلامهم، رغم العداء الأيديولوجي بينهم كأفراد وبين الغرب كنظام سياسي اقتصادي.

في عام 1984 م يصدر الشاعر أحمد مطر مجموعة شعرية أطلق عليها »لافتات 1« وفي المجموعة عناوين عديدة، كل عنوان فيها يثير الاهتمام الى درجة تجد نفسك قارئاً لما تحت العنوان، ولو لم تكن تقصد القراءة، ومنها… شعر الرقباء، ولادة الأرض، ورثة ابليس، السلطان الرجيم، الثور والحظيرة، سوق الغنم، إنّي المشنوق أعلاه، عبد الذات..»حكاية عباس« والعنوان الأخير لا يغادر حاضرنا لأنه -كفكرة- ولدت في تاريخنا وتراثنا وذاتنا…. لندع أحمد مطر يتكلم:

عباس وراء المتراس، يقظ منتبهٌ حساس، منذ سنين الفتح يُلمِّع سيفه، ويلمع شاربه أيضاً، منتظراً محتضناً دفّه، بلع السارق ضفة، قلّب عباس القرطاس، ضرب الأخماس بأسداس، بقيت ضفة، لملم عباس ذخيرته والمتراس، ومضى يصقل سيفه، عَبَر اللص إليه، وحل ببيته، أصبح ضيفه، قدم عباس له القهوة، ومضى يصقل سيفه.

ابتدأ الشاعر المشكلة من عهد الفتح، فما الفتح؟ إنه مصطلح جاء إثر دخول النبي محمد (ص) الى مكة بعد ثمانية أعوام قضاها في المدينة (يثرب)، حيث أنهى استعداداته العسكرية والثقافية والاجتماعية، ليدخل مكة معلناً انتصاره على طغم قريش السياسية والمالية 630م، ومع دخول النبي مكة تسانده السماء بالآيات المؤيدة، والتي ترى في دخوله مكة بداية عهد جديد يقوم على الإزاحة والإحلال، إزاحة العالم الجاهلي وإحلال العالم الاسلامي بأبعاده: التوحيدي، الاجتماعي، السياسي، والسورة المؤيدة هي سورة الفتح:

( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً1 لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً2 وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً3).

ولكن مفهوم الفتح في مرحلة ما بعد النبي أخذ يغادر مسوغ نشوئه الأول، لينتظم في بنية تاريخية جديدة، وهي بنية الغالب والمغلوب، فقد ادعى كل حاكمٍ نصب نفسه أو نصبته القوة الفاعلة بأنه سيقوم بالفتوح استمراراً لـ (فتح مكة)، لكن الفتوح – دون استثناء- كانت لغرض اقتصادي أساسه الاغتناء بموارد المكان الآخر، وذلك لفقر الجزيرة العربية بالموارد…

ولكن لماذا استحضر شاعر سياسي معاصر لحظة الفتح؟

يبدو أن تلك اللحظة هي لحظة البداية نعمةً وكارثة، أما أنها نعمة فلأنها -فعلاً- بدأت عهداً وليداً يقوم على الانتقال من تعدد القبائل إلى القبيلة الواحدة، أي إن القبائل التي رفضت الانتظام في البنية الجديدة، لم يعد لها مخرج سوى القبول بنظام الاسلام، الذي وحّد المجتمعات -بالقوة- في وحدة اجتماعية… يمكن أن نختلف على تسميتها … لكنها مرحلة جديدة.

وما الرابط بين لحظة الفتح ورؤية أحمد مطر للشخصية العربية؟

يبدو – لنا- أن المسألة مرتبطة بمقولة »الادّعاء«، فكل عمل عسكري قام به خلفاء النبي يسمى(فتحاً)، ولو لم يُسمَّ كذلك لما قبلته العامة، ونعني لم تقاتل خارج حدودها، فالأيديولوجيا التي تحتمي بها الطبقة ذات المصلحة تعممها، بارتهانها  للآخرة، أما مكاسب الدنيا فليس للجند أو مَن في مرتبتهم حظ بها، وما إن تقدم العهد الأموي 660 -750  م _ بعد أن خلى العهد الراشدي مكانه_ حتى اخذت (الفتوح) تفصح عن نفسها، على أنها مشروع يتجاوز المقولات الإسلامية من أجل تأسيس حكم سلالي مركزه دمشق، حيث الماء والأرض الخصبة والدربة مع المناخ والتعايش مع الشجر والثمر واستثمار المنتج، وهنا نذكّر بما أرّخ له المسعودي 957 م – 346 هـ في مروج الذهب أن أول ثورة فلاحية في العصور الوسطى قام بها الفلاحون من القبائل الأفريقية، بعد أن طرد مروان بن الحكم 683 – 684 م الفلاحين من الأصل العربي، و استجلب  الأمويون العبيد من شرق افريقيا، في عهد عثمان، حيث كان مروان بن الحكم نفسه والياً على الشام، لكن الانتفاضة حدثت في زمن مروان الخليفة، وهنا نستغرب ممن يرى في المرحلة الأموية مرحلة عروبية، ولم يدقق في تفاصيل تاريخية مهمة.

ومن المفيد أن نذكر أن الإسلام _ من وجهة نظر المعرفة_ حدد نظريته من خلال الوحي، وأن المعرفة العقلية مشروطة بالوحي الإلهي، في حين حصر إمكانات البشر في الجانب الحسي من المعرفة، وعلى الأخص بما يهم المصالح المباشرة القائمة على التجريب في حدودها المسطحة، ومن هنا يدّعي أصحاب الرأي الأحادي أن الاسلام أقام  علاقة تبادلية بين فكرة الإيمان والتجريب المعرفي، ولكن تلك العلاقة حصرت المعرفة العقلية للإنسان في الحدود التي يمكن للإنسان أن يفيد منها على المستوى الحسي ليعزز عقائده الإيمانية »…وبهذا تمكنت الذهنية الفقهية من قطع الطريق على الجدل الفكري وعلى كل ما يتعلق بما وراء الطبيعة«.

فإذا كان الفتح قد ابتدأ مرحلته الأولى آخر عهد أبي بكر 633 م بدخول جيوش الجزيرة إلى الشام فإن عام 634م وهو العام الأول من حكم عمر بن الخطاب قد شهد وصول جيوش الجزيرة إلى العراق، في معركة فاصلة تدعى (القادسية)، وقد استكملت عملية الفتح للشام والعراق 638م.

 وأما المرحلة الثانية فتمتد من أواخر القرن السابع إلى بدايات القرن الثامن، حيث دخلت الجيوش البدوية بعضاً من آسيا وأفريقيا وأوربا (الأندلس) 711م. وقد استمرت عملية الفتوح حوالي سبعين عاماً.

وينقل بندلي جوزي عن الأمير ليوتي كايتاني في كتابه من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام 1955م » أن الجزيرة العربية كانت تحوي قليلاً من الموارد وكثيراً من البشر… وإن الجفاف المسيطر قد جعل الجزيرة قليلة الماء والعشب، مما حرم أهلها الغذاء وماشيتها العلف، لذلك خرجوا باحثين عن العيش الوفير في البلدان الخصبة«.

من وجهة نظر أخرى يرى المفكر حسين مروه في »النزعات المادية« أن العامل التاريخي هو الأكثر حسماً، ويعني به عامل التطور التجاري داخل الجزيرة، ونشوء فئة من كبار التجار العرب بين القرنين السادس والسابع… إن هذه الفئة هي الجنين الطبقي لهذا المجتمع الجديد.

كل هذا وكل ذاك يجعلنا نعتقد بأن للتاريخ مكراً خاصاً، فالمرحلة العثمانية 1516 – 1916 في المشرق العربي ادّعت أنها مرحلة الفتح، واليوم تستفيق الذاكرة العثمانية لتوظيف (الفتح) في إقصاء النظام الوطني في سوريا والعراق لصالح المرحلة الرأسمالية الصناعية التي دخلت طور الاختناق، فوجدت في الإسلام العثماني الوليد _ بعد أن استغلق العصر الأوربي عليهم_ حليفاً مباشرا رغم التناقضات الأيديولوجية بين الطرفين…

أما نبوءة أحمد مطر الشاعر السياسي فقد صدقت صدقاً شبه تام، عندما » قدم عباس لعدوه القهوة« فما بين هذه القصيدة 1984م وبين حرب اسرائيل على المقاومة اللبنانية 2006م ربع قرن، إلا أن وزيراً لبنانياً ينتمي الى الجزيرة العربية في قرنها السابع قدم للضابط الاسرائيلي »الشاي« ويبدو أن الشاي أكثر حميمية….. ويتابع أحمد مطر في حكاية عباس:

صرخت زوجة عباس: »أبناؤك قتلى، عباس، ضيفك راودني، عباس، قم أنقذني يا عباس«، عباس ــ اليقظ الحساس ــ منتبه لم يسمع شيئا، (زوجته تغتاب الناس) صرخت زوجته : »عباس، الضيف سيسرق نعجتناس، قلب عباس القرطاس، ضرب الأخماس بأسداس،أرسل برقية تهديد«.

الأمصار العربية اليوم كزوجة (عباس) رغم ما حل بها إلا أنها ذات خطاب سياسي واحد ينتمي إلى (ادعاءات) عهود الفتح الذي ما زال الناس مقتنعين _ تحت الشرط التربوي والحربي والأكاديمي_ أنها عهود ايمانية خالصة لله، إذن لا أحد يستغرب ادعاءات (داعش) هذه الخرافة الجديدة بأنها ستقيم دولة الإسلام في سورية والعراق، ولكن الذي لا يمكن الاستئناس به هو أن دويلات الجزيرة الجديدة القادمة من عمق العصور الوسطى ومن عمق النفط الخام بدأت تحاضر سياسياً عبر منظومتها الإعلامية ونخبها المستأجرة بالديمقراطية والفتح الجديد، وفي هذا تنبأ أحمد مطر وقال تحت عنوان (خطاب تاريخي): »رأيت جرذاً يخطب اليوم عن النظافة، وينذر الناس بالعقاب، وحوله يصفق الذباب…..«.

ولكن ما العمل؟ وما المصير؟

سؤالان يلزم كل منهما الآخر، فإذا كنا في سوريا والعراق قد تأخرنا في بناء دولة (المواطنة) القائمة على المساءلة والاعتراف بالتعدد العرقي والعقائدي: الغيبي والسياسي، فإن البناء ممكن حتى في ظل الاحتلال و الحصار والمؤامرات، ولا شيء ينقذ بشكل جذري إلا (المواطنة) وهذه فكرة قبل أن تكون دولة، وهذا يعني أن لها فروضاً ثقافية وأخرى سياسية وثالثة تعليمية… وفي المقدمة أرى الانعتاق من (الجبريات) خطوة رائدة في بناء عقلية الفرد بوضوح وشفافية، أطال الله عمر الشاعر أحمد مطر إذ يقول:

»بَعدَ ألفي سَنة، تَنهَضُ فَوقَ الكُتُب، نَبذَةٌ عَن وَطنٍ مُغتَرِب، تاه في أرضِ الحضاراتِ مِن المَشرقِ حتّى المَغرب، باحِثاً عَن دَوحةِ الصدق ولكن….. عِندما كادَ يَراها حَيّةً مَدفونَةً وَسطَ بِحارِ اللهب، قُربَ جُثمانِ النبي، ماتَ مَشنوقا عليها بِحبالِ الكَذِب، وَطنٌ لَم يَبقَ مِن آثارِه غَيرُ جِدارٍ لَم تَزل لاصِقَةٌ فيه بَقايا……  مِن نِفايات الشِعاراتِ وروثِ الخُطَب، وعلى الهامِشِ سَطرٌ، أثرٌ لَيسَ لَهُ اسمٌ، إنّما كانَ اسمُهُ …… بلادَ العرب«.

وفي هذه البلاد التي سميت بأسماء عديدة …. جزيرة العرب، جزيرة البدو، جزيرة النفط، الجزيرة العثمانية، جزيرة الشركات المتعددة الجنسيات..، كل العناوين والأسماء صالحة للاستعمال إلا الاسم الأول.

العدد 1107 - 22/5/2024