الترجمة وأهميتها الفكرية والحضارية

تكتسب الترجمة أهميتها الفكرية والحضارية من عدة نقاط يمكن إيجازها بما يلي:

الترجمة محرض ثقافي يفعل فعل الخميرة الحفّازة في التفاعلات الكيماوية، إذ تقدم الأرضية المناسبة التي يمكن للمبدع والباحث والعالم أن يقف عليها، ومن ثم ينطلق إلى عوالم جديدة ويبدع فيها ويبتكر ويخترع. هذه الأرضية تصنعها الترجمة بما توفره من معارف الشعوب الأخرى التي حققت تراكماً عبر التاريخ يمكّنها من دفع النخبة الفكرية من النقطة التي بلغتها الثقافة البشرية ولا من الصفر، وكذلك بما تقدمه من نماذج وأساليب تمكنت الشعوب السابقة من إيجادها عبر كفاحها المتواصل والمستمر لتحسين العقل البشري وتطوير المعرفة لدى الإنسان.عملية التحريض التي تقوم بها الترجمة نراها واضحة لدى كل أمة، خاصة حين تنتقل إلى طور حامل المشعل الحضاري، إذ تسبق حركة الترجمة دائماً حركة التأليف، بالمعنى العام للكلمة، وتمهد الأولى لثانية بحيث يبدو جلياً، إذا ما ألقينا نظرة على تاريخ الأمم، أن حركة الترجمة كانت دائما هي المرحلة الانتقالية ما بين مرحلة الجذب، أي عدم العطاء بالمعنى الحضاري والثقافي، ومرحلة الإبداع والتأليف،  ذلك أنه ما من أمة انتقلت، أو يمكن أن تنتقل، بقفزة واحدة من الجدب الثقافي إلى العطاء والخصب،  بل لا بد لها من فترة زمنية قد تستغرق عقوداً بل ربما قروناً من السنين.نرى هذا في حضارات الشرق، اليابان، الصين، الهند والشعوب المجاورة لها، كما نراه في الغرب:الأسبان الذين نقلوا عن العرب، وشمال أوربا التي نقلت عن جنوبها، وجنوب إفريقيا التي نقلت عن شماليها وعن أوربا.. إلخ..  

الترجمة تجسر الهوة بين الشعوب الأرفع حضارة والشعوب الأدنى حضارة.ذلك أن الإنسان في سعيه الحثيث والدائب لاكتساب المعرفة يتطلع دائماً إلى من سبقه في هذا الميدان،  لهذا تغدو المراكز الحضارية في العالم مراكز نور وإشعاع تجذب أبناء الظلمة وتغريهم بالاندفاع نحوها.لهذا السبب غدت بغداد المنارة المضيئة للعالم ذات يوم كما كانت قبلها روما وأثينا، وكما أصبحت بعدها باريس ولندن..هنا تلعب نقاط الاحتكاك الجغرافية دور الجسر الحقيقي بين الأرفع حضارة والأدنى حضارة، فالتماس بين شعبين متباينين ثقافياً يدفع الأقل ثقافة إلى تقليد الأرفع ثقافة وتحصيل ما لديه من معرفة، سواء بالتحصيل المباشر أي التعلم والنقل الحرفي والمهني أم بالترجمة، وبالتالي التعلم غير المباشر.وفي حضارتنا العربية لعبت إسبانيا وصقلية والبندقية دور الجسر هذا، إذ انتقلت عبرها معارف العرب وعلومهم مترجمة إلى لغات أوربا الجنوبية ودرست في مدارسها وجامعاتها، إلى أن أعطت أكلها من عصر النهضة الذي بدأ أول ما بدأ في إيطاليا وإسبانيا ثم انتقل إلى فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وليس هذا الانتقال التدريجي اعتباطياً أو محض مصادفة، بل هو الجسر الحضاري الذي شكلته هذه البلدان من خلال احتكاكها المباشر والأشد فعالية بمركز الحضارة العالمي في القرون الوسطى: الحضارة العربية الإسلامية.

الترجمة هي الوسيلة الأساسية للتعريف بالعلوم و التكنولوجيا. ذلك أن ما يكتشفه العلماء ويتوصل إليه التكنولوجيون إنما ينتقل إلى المناطق الأخرى من العالم بواسطة الترجمة وحسب. فعالم الفضاء،  الذرة،  الكيمياء،  الطب،  مهندس الإلكترون،  كلهم يكتبون ما توصلوا إليه من نتائج بحث في مختبراتهم وميادينهم المختلفة ثم يُنقل ما كتبوه إلى اللغات الأخرى،  شفهياً في المؤتمرات والمحاضرات أو خطياً على صفحات المجلات والكتب.هنا تبدو الترجمة وسيطاً مباشراً في التعريف بإنجازات البشرية واطلاع بعضها على ما حققه البعض الآخر من تقدم وتطور،  لولاها لامتنع هذا الاحتمال وتعذر انتقال الإنجازات العلمية والتكنولوجية إلى الشعوب الأخرى، ففي اليابان مثلاً يتم اختراع جهاز إلكتروني ما وقد ينتقل هذا الجهاز إلى هذا البلد أو ذاك، لكن يبقى سر صنعته واختراعه غامضاً بل مجهولاً إن لم تكتب البحوث عنه وتترجم إلى اللغات الأخرى. من هنا نجد الكثير من الأسرار في عالم الصناعة والتكنولوجيا،  تحتفظ بها دول بعينها وتعمل المستحيل لمنعها من الانتشار. حدث ذلك عقب اكتشاف أمريكا للقنبلة الذرية، محققة بذلك سبقاً على دول الأرض كلها وتفوقاً على الاتحاد السوفييتي، خصوصاً، وحاولت جاهدة الحفاظ عليه ومنع الأسرار التقنية لعملية انشطار الذرة من الانتشار،  كما يحدث ذلك الآن في ما نسمعه عن حظر بعض المعلومات والتقنيات الإلكترونية ومنعها من التسرب من بعض البلدان المتقدمة كاليابان مثلاً إلى بعض البلدان الأخرى الأقل تقدماً في هذا المضمار.

الترجمة عنصر أساسي في عملية التربية والتعليم. ذلك أن مناهج التربية والكتب التي تعتمدها المدارس في العملية التربوية لا تأتي من العدم ولا تنشأ من الفراغ، بل غالباً ما تتكون بصورة تدريجية معتمدة في ذلك اعتماداً أساسياً على الترجمة، إذ تنقل الشعوب الأقل ثقافة عن الشعوب الأكثر ثقافة مناهجها وكتبها أو الهيكل العظمي لهذه المناهج والكتب إلى لغتها الخاصة ثم تطورها شيئاً فشيئاً، بل كثيراً ما تبدأ هذه المناهج باستخدام الكتب الأجنيبة كما هي ثم تنقلها إلى لغتها تدريجياً. الأمثلة على ذلك كثيرة، ففي الهند مثلاً، كان التعليم يجري باللغة الإنكليزية أيام الاستعمار البريطاني، وكانت المدارس تستخدم المناهج والكتب الانكليزية تماماً كما في بريطانيا، ثم شيئاً فشيئاً تحولت إلى اللغتين الأوردية والهندستانية وغيرها من اللغات المحلية. في سورية ولبنان، كانت مناهج التعليم هي نفسها المعتمدة في فرنسا والكتب هي تلك المستخدمة في فرنسا، ثم ترجمت وعربت شيئاً فشيئاً إلى أن أصبحت عربية تماماً في سورية ومزيجاً من العربية والفرنسية كما هي الآن في لبنان.. لكن لا بد من أن يأتي يوم تترجم فيه هذه الكتب إلى العربية وتتبلور بشكل نهائي، متخذة أبعادها الخاصة، وذلك حين تكون الترجمة قد أدت دورها محرضاً ثقافياً ومرحلة انتقالية يغدو الناس بعد ذلك قادرين على تأليف كتبهم بأنفسهم ووضع مناهجهم من تلقاء ذاتهم، سواء على صعيد المدارس الابتدائية والثانوية التي أدت الترجمة فيها دورها بصورة عامة، وبات بالإمكان الانتقال إلى مرحلة التأليف في معظم البلدان العربية أم على الصعيد الجامعي حيث ما تزال المشكلة قائمة على نحو أشد وضوحاً حتى الآن ففي معظم جامعات البلدان العربية ما تزال فروع كاملة كالطب والرياضيات والعلوم تدرس باللغة الإنكليزية أو الفرنسية وتستخدم فيها المناهج الأجنبية، الأمر الذي يدل على أن حركة الترجمة لم تستطع نقل هذه المعارف إلى اللغة المحلية كما ينبغي، وبالتالي ما يزال يطلب منها الكثير باعتبارها العنصر الفعال في عملية التربية والتعليم.

الترجمة هي الأداة التي نتمكن بها مواكبة الحركة الفكرية والثقافية في العالم، فنظرة واحدة يلقيها المرء على ما تصدره دور النشر باللغة الإنكليزية مثلاً تجعله يقف مندهشاً نظراً للأعداد الهائلة من الكتب والدوريات التي تصدر كل عام، هذا بلغة واحدة فكيف ببقية اللغات، الفرنسية، الروسية، الإسبانية، الصينية وغيرها من اللغات الأخرى.. هذا الفيض من الكتب يشكل الحركة الفكرية والثقافية في العالم التي يتعين علينا أن نواكبها بهذا الشكل أو ذاك، ومواكبتنا لها لا تتم بالطبع إلا بمقدار ما يُترجم من هذه الكتب كي يكون بإمكان القارئ الاطلاع على آخر الإبداعات والأفكار والآراء في العالم. هنا نجد أن الترجمة ليست الواسطة الوحيدة، فمع التطور التقني وتقدم وسائل الاتصال باتت أجهزة الإعلام، من إذاعة وتلفزيون، تلعب دوراً مباشراً في نقل أخبار الثقافة والإنجازات الثقافية والفكرية، إلا أنه يبقى للترجمة مكان الصدارة في تحقيق المواكبة الفكرية والثقافية نظراً لأن الكتاب كان وما يزال العمود الفقري للتحصيل الثقافي.

كذلك نرى أن هناك فروقاً واسعة بين البلدان في إمكانية تحقيق هذه المواكبة، فالبلدان الأرفع درجة في سلم الحضارة أشد قدرة على تحقيق المواكبة، بينما البلدان الأدنى درجة في سلم الحضارة أقل قدرة على ذلك. مثال بسيط يمكن أن يوضح لنا ذلك. فالكتاب الصادر باللغة الروسية مثلاً يمكن أن يترجم إلى عشرات اللغات ويصدر بها في الوقت نفسه الذي يصدر بلغته الأم، كما أن بإمكان القارئ الروسي مثلاً أن يقرأ الكتاب الإنكليزي أو الروسي بعد فترة وجيزة من صدوره بلغته الأم، ذلك أن التقدم التقني في فن الطباعة ومجمل الشروط والأنظمة الأخرى المتعلقة بالطباعة والكتاب تمكّن الناشر في بلد من هذه البلدان من مواكبة الحركة الفكرية والثقافية في العالم، بينما تقف مثل هذه الشروط والأنظمة عائقاً قد يكون مستحيلاً تجاوزه في بعض البلدان الأخرى، وبالتالي يحول بين الترجمة ودورها في تحقيق تلك المواكبة ذات الأهمية البالغة في التطور الحضاري خاصة بالنسبة إلى بلدان العالم النامي.

الترجمة وسيلة لإغناء اللغة وتطورها وعصرنتها،  إذ تلعب الترجمة دوراً هاماً في إغناء اللغة وتطويرها، ذلك أن الميادين الجديدة التي تخوضها الترجمة تقتضي منها، بالتأكيد، أن تبحث عن صيغ جديدة، مصطلحات جديدة، تعابير مناسبة، كلمات ملائمة، وهذا كله إغناء للغة وتطوير لها بما أن اللغة كائن حي يولد ويزدهر ويموت، وبما أن وجوده يقوم على الأخذ والعطاء، على الموت والتجدد، ندرك ما يمكن أن يفعله في اللغة احتكاكها باللغات الأخرى. فكم من لغة ليس لها شأن اليوم قد تصبح بعد حين من الزمن لغة العالم. ذلك أن هذا الكائن الحي الذي يدعى اللغة له خصائص الكائن الحي كلها، يكبر ويصغر، يزدهر ويضمحل، يعتل ويصح.. إلخ واللغة التي لا تستطيع التجدد والتطور لا بد من أن تموت،  فسنّة الحياة هي التجدد وشرط الاستمرار هو التطور،  وإلاّ  خمد الكائن الحي وذوى إلى أن يلفظ أنفاسه.

الخلاصة

من الواضح أن عملية الترجمة تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم، إلا أن هذا النهج  قد يطرح في النهاية تحديات جوهرية تتعدى بطابعها وسرعتها إطار الترجمة في حد ذاته لتلاصق مسائل المشروع الثقافي والحضاري العربي ككل،  فالمسألة ليست كمية إذاً،  كما أنها لا ترتبط بعدد من العناوين المترجمة،  وإنما بنوعيتها وبمدى استجابتها لمتطلبات النوع الاجتماعي والتقني والعلمي في الوطن العربي.وبما أن أي عملية حضارية وثيقة الصلة بالمصير التنموي ككل، فإنها تصبح في حاجة إلى مؤسسات تنظم وإلى سياسات رسمية تقرر وإلى برامج للتخطيط، بل – ولم لا؟ – إلى إشراف ذي طابع مركزي من أجل أن تتحرك الترجمة في إطارات مرسومة لتحقيق أهداف إيجابية ومن أجل تجاوز إضاعة الجهود بالتكرار أو الفوضى بالانتقاء.

معنى هذا باختصار هو أن مشكلة الترجمة في الوطن العربي ليست مشكلة مترجم، وإن كان لهذا الأخير دوره في تكريس الوضع المتردي للترجمات، وإنما في السياسة الثقافية الرسمية التي تخطط وتبرمج لحركة النشر والتأليف. وإذ كان على المترجم الفرد أن يتقن اللغات العربية والأجنبية وأن يكون ملماً بالمفردات والتراكيب والإمكانات الفنية والمجازات والإيحاءات، فإن المطروح أمام الجماعة العربية (مجتمع الباحثين والمترجمين) ثم على مخططي السياسة الثقافية بالذات هو المبادرة إلى وضع برامج قريبة المدى تتماشى ومتطلبات التعريب التربوي والعلمي، التي نصت عليها التزامات الدول الأعضاء في منظمة الألسكو والقاضية بالتعريب المرحلي، والعاجل في الآن نفسه، لكامل القطاعات التعليمية والثقافية والإعلامية والفكرية.

العدد 1107 - 22/5/2024