ماذا بعد الانتكاسات المتتالية؟

عندما كانت الإنذارات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والتركية والخليجية تنهمر على سورية كالمطر، داعية إياها إلى التخلي عن ذاتها، وعن استقلاليتها ووحدة ترابها وعن شرعيتها، وتحدد لذلك مُهَلاً زمنية بالأسابيع والأيام، وأحياناً بالساعات.. آنذاك لم يكن أكثر الناس تفاؤلاً يتخيلون أن يقف قادة الدول الاستعمارية الواحد تلو الآخر، على منصات الخطابة، ليعلنوا على الملأ أن الحرب على الدولة السورية قد تدوم سنوات ولن يكون لها حظ كبير بالنجاح، وأن كلفتها السياسية والعسكرية والاقتصادية ستكون أكثر بكثير من النتائج المتوقعة لها.

وبالطبع ما كان بالإمكان الوصول إلى هذه الاستنتاجات التي يعلنها قادة الغرب أنفسهم اليوم، لو لم تكن الوقائع تؤكد ذلك.

فأولاً بدأت علائم التردد في خوض هذه الحرب تبدر من الولايات المتحدة نفسها التي أدركت بدراية تامة، وخاصة بعد الفيتو الروسي الصيني المزدوج، أن اللعب بموازين القوى الاستراتيجي في المنطقة أمر ممنوع، وأن خريطة جديدة للعالم قد بدأت بالارتسام، ولم تعد الولايات المتحدة هي الآمر الناهي في المنطقة بل وفي العالم، وقد انعكست هذه الأمور انعكاساً يشبه الانقسام داخل الكونغرس الأمريكي.

وثانياً بدأت الدول الأوربية الواحدة تلو الأخرى بالتنصل من تعهداتها التي قدمتها للمعارضة المسلحة بتقديم السلاح النوعي الفتاك، وتبين لهم فيما بعد أن تلك الوعود لم تكن إلا لرفع معنويات المجموعات المرتزقة التي بدأت بالتداعي وبالتراجع في الميدان أمام صمود الشعب والجيش السوري، وتماسك الدولة السورية.

ثم جاء الحدث التركي الكبير الذي، وإن لم يصل إلى نهاياته بسقوط نظام أردوغان، لكنه أظهر أن هذه الدولة تشبه القنبلة الموقوتة المحشوة بشتى أنواع التناقضات القومية والطائفية والإثنية والعرقية والتي انفجرت دفعة واحدة، فأضعفت إمكانية الاعتماد عليها في إدارة مشروع سيطرة (الإخوان المسلمين) على المنطقة بإشراف أمريكي، وتحول الهاجس الأمريكي إلى كيفية استعادة استقرار النظام التركي، بدلاً من تكليفه بأدوار أكبر منه ومن إمكاناته الهشة أصلاً.

وكان للزلزال المصري وقع الصاعقة على المشروع بأكمله، فقد جاء (الإخوان المسلمون) إلى الحكم في مصر بموجب (عقد الشراكة الأمريكي – التركي – القطري- الإخواني) لاستعادة النفوذ الأمريكي بأدوات جديدة.

إن السقوط المدوي والسريع لحكم الإخوان في مصر يدل بالدرجة الأولى على أن الولايات المتحدة لم تعد تملك أوراق المنطقة، وأن أوربا التي لم تكن مطمئنة تماماً لاستبعاد الولايات المتحدة لها عن تقرير شؤون المنطقة وعن اقتسام مناطق النفوذ فيها، لا تملك أوراقاً هامة في المنطقة هي الأخرى. إن الثورة الشعبية الهائلة التي اجتاحت مصر عبرت عن أن شعوب المنطقة لا يمكن إقصاؤها عن عملية تقرير مصيرها، إذ أصبحت هي نفسها تملك الأوراق الأساسية، وأن (التمرد) السوري طوال 30 شهراً الذي لحقه (التمرد) المصري، والغليان الذي تشهده تونس وغيرها، والتموضعات الجديدة في دول الخليج، كلها تحمل دلالات بالغة على أن المنطقة تقترب من خريطة جديدة غير خريطة الشرق  الأوسط (الكبير)، خريطة كونداليزا رايس السيئة الصيت، والتي حملت معها الدمار والموت ومشاريع التفتيت والتقسيم لدولها وشعوبها.

هنا.. ينتصب السؤال التالي: ماذا عن مؤتمر جنيف 2 في ظل الظروف الجديدة، الذي ما طلت وناورت الولايات المتحدة كثيراً في الموافقة عليه ثم في الانقلاب عليه؟ وماذا عن الشرط التعجيزي الذي وضعته لحضور المؤتمر، وهو تعديل ميزان القوى لصالح المعارضة، على حساب الدولة السورية، وهو ما نعتقد أنه لا يوجد عاقل واحد في العالم يمكن أن يطرحه بمثل هذه الفجاجة؟

تعالوا إلى المؤتمر وأنتم مهزومون وقد استكملتم تدمير سورية، لنتمكن من الجلوس على مائدة المفاوضات! هذا هو منطوق الشرط الأمريكي بالتمام والكمال، الذي لا يحتمل تفسيراً آخر.

أما سورية، فهي تنظر إلى الأمور نظرة أخرى: تعالوا إلى المؤتمر لكي نحقق حلاً سياسياً، ونُسكِت صوت الرصاص، ونشطب العنف من قاموس حياتنا وحياة المنطقة، تعالوا إلى المؤتمر لكي يتصالح السوريون الوطنيون مع بعضهم بعضاً، ويفكروا كيف يعيدون إعمار سورية، وكيف يبنون الدولة الديمقراطية المدنية والعلمانية.

إن صوت العقل والحكمة يجب أن يعلو فوق كل الأصوات، ولكن لا يبدو حتى الآن أن الإدارة الأمريكية وبعض أتباعها وخدمها في المنطقة، قد وصلوا إلى هذه القناعة بعد.. فهم يميّعون فكرة مؤتمر جنيف لإطالة الأزمة في سورية، وإنهاك قواها وإيصالها إلى حد إعلانها دولة فاشلة. ونتوقع لتحقيق ذلك المزيد من أعمال العنف والإرهاب التي لا تعبر سوى عن يأسهم.

وشعبنا مع جيشه الذي صمد طوال 30 شهراً، سيواصل حياته ويحقق أهدافه الأساسية في الدفاع عن الوطن، والسير بخطاً أسرع نحو التغيير السلمي والديمقراطي.

العدد 1105 - 01/5/2024