كي لا ننسى: المحامي الدكتور مصطفى أمين – نصير الحرية والسلام والديمقراطية والتقدم الاجتماعي

خريف عام 1921 في بلدة منين شمالي مدينة دمشق، وُلد مصطفى أمين، في عائلة محدودة الدخل. ولم يكن قد تجاوز السنتين من عمره عندما هاجر والده إلى الأرجنتين بحثاً عن عمل، فتحملت والدته أعباء المنزل وتربية الأبناء، لغاية عودة والده من المهجر عام 1953.

بدأ الدراسة في مدرسة القرية، ثم تابع الدراسة الابتدائية في مكتب عنبر في دمشق، ثم الدراسة الثانوية في التجهيز الأولى التي سميت لاحقاً باسم مديرها (جودت الهاشمي). وكان والده يرسل له نفقات دراسته من الأرجنتين. وبعد حصوله على شهادة (البكالوريا) انتسب إلى كلية الحقوق، وكان في الوقت ذاته يعمل في أحد مستودعات الطحين ليستكمل نفقات دراسته. وبمجرد تخرجه في كلية الحقوق عام 1946 انتسب إلى نقابة المحامين في دمشق.

تعرف مصطفى على الحزب الشيوعي السوري باكراً، ففي عام 1936 ومن خلال صديقه (مصطفى العشا)  التقى بمسؤول منظمة الحزب في دمشق (فوزي الزعيم)، وحضر لأول مرة اجتماعاً ألقى فيه (ناصر حدّة) الأمين العام للحزب في حينه خطاباً، ثم بعد عدة أشهر حضر اجتماعاً آخر استمع فيه إلى خطاب الأمين العام الجديد للحزب (خالد بكداش) الذي كان قد عاد مؤخراً من موسكو. وتابع بعد ذلك حضور المحاضرات التثقيفية التي كان يلقيها (نجاتي صدقي) على الطلاب الشيوعيين في مكتب الحزب في حي البحصة بدمشق. وقد حضر مصطفى أمين المؤتمر الثاني للحزب الذي انعقد في بيروت مطلع عام ،1943 حسبما يذكر في النبذة عن حياته الواردة في كتابه (الإمبريالية الأمريكية خصم  تاريخي للحرية والديمقراطية).

يذكر مصطفى أمين بافتخار أنه، في أواخر عام ،1943 واحتفاء بانتصار الجيش السوفياتي على جحافل النازية في معركة ستالينغراد، قام بتكليف من الحزب، مع رفيقه المناضل النقابي (حسين عاقو) بإشعال النار على شكل منجل ومطرقة على قمة جبل قاسيون.

(ويذكر  أن حسين عاقو استشهد عام 1947 أثناء دفاعه عن مكتب الحزب ضد الهجوم الذي شنه الإخوان المسلمون على المكتب، بعد تصويت الاتحاد السوفييتي إلى جانب قرار تقسيم فلسطين في مجلس الأمن، وقد صدر في التاريخ ذاته قرار بحل الحزب وتحريم نشاطه).

في عام 1947 كانت قد جرت انتخابات نيابية في دمشق وترشح فيها خالد بكداش، وقد عين مصطفى أمين وكيلاً عنه في مركز العفيف الانتخابي.

وفي أواسط عام 1947غادر إلى فرنسا لمتابعة الدراسة، وحصل على شهادة الدكتوراه في القانون الدولي العام في عام 1950 من جامعة السوربون، على أطروحته التي قدمها تحت عنوان (الأحزاب السياسية في سورية بين عامي 1936ـ1947).

وخلال فترة دراسته في فرنسا استمر بمتابعة نشاطه الحزبي مع بدر الدين السباعي ورفاقه الآخرين، حيث كلف بالمسؤولية عن الشيوعيين السوريين، واللبنانيين في فرنسا، وتنظيم العلاقة مع الحزب الشيوعي الفرنسي.

يعد مصطفى أمين من العناصر الأساسية  التي ساهمت بتشكيل حركة أنصار السلم في العالم، التي ولدت عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، والتي هدفت إلى توطيد السلام في العالم ، وتحريم الأسلحة الذرية والحؤول دون قيام حرب عالمية جديدة. فقد حضر مؤتمر الحركة الأول الذي انعقد في براغ، كما كان العربي الوحيد الذي حضر اجتماع اللجنة الدائمة للحركة في استوكهولم في آذار1950.

وبمجرد عودته إلى دمشق أواسط عام 1950كلفته قيادة الحزب بالمسؤولية عن حركة أنصار السلم في سورية. وقد عملت الحركة منذ تأسيسها بنشاط من أجل حشد مختلف القيادات السياسية والاجتماعية والدينية حول أهدافها، فضمت في صفوفها العديد من الشخصيات الوطنية، ومنهم الشيخ صلاح الزعيم والرسام سعيد تحسين وأحمد أباظة وتحسين مريود والشيخ المجاهد محمد الأشمر الذي انتخب في المؤتمر الثاني للحركة الذي انعقد في 16/7/1954 بحضور 113 مندوبا من جميع أنحاء سورية رئيساً للجنة الوطنية لأنصار السلم في سورية، وانتخب مصطفى أمين أميناً للسر. وقد منح الشيخ محمد الأشمر لاحقاً جائزة ستالين للسلام.

كما شاركت الحركة السورية للسلام في جميع مؤتمرات حركة السلام العالمية ونشاطاتها، في مجالات دعم حركات التحرر الوطني  في العالم، وخاصة المؤيدة لحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره فوق تراب وطنه.

وكان مصطفى أمين يساهم في ذلك الحين بالكتابة في صحيفة (السلام) الأسبوعية التي أخذت تصدرها الحركة، والتي كان يشرف عليها آنذاك الأديب الكبير (حنا مينة).

كان مصطفى أمين معادياً لجميع أشكال الدكتاتورية التي مرت على سورية، ومناضلاً حازماً من أجل الديمقراطية فيها، ابتداء من دكتاتورية حسني الزعيم وأديب الشيشكلي، وقد أوقف أكثر من مرة بسبب مواقفه تلك، كانت إحداها حينما اعتقل أثناء فترة دكتاتورية أديب الشيشكلي مع  رفيقه (خليل  الحريري ـ أبو فهد) لعدة أشهر وعُذّبا خلالها بتهمة نسف مكتب المعلومات الأمريكي التي جرت في حينه، وقد أفرج عنهما بعد أن ثبتت، عقب إحالتهما إلى القضاء، براءتهما من التهمة المعزوّة إليهما.

في آب ،1954 بعد سقوط ديكتاتورية الشيشكلي، جرت الانتخابات النيابية في سورية، وقد شارك مصطفى أمين بنشاط في الحملة الانتخابية التي ترشح فيها الرفاق خالد بكداش وجورج عويشق ونصوح الغفري ومراد قوتلي في دمشق وريفها عن الحزب، وفاز فيها من الدورة الأولى بنجاح كبير الرفيق خالد بكداش، هو و خالد العظم وسهيل خوري ابن فارس الخوري وآخرون، بينما سقط في تلك الدورة رئيس الوزارة آنذاك سعيد الغزي ومرشح حزب البعث صلاح البيطار ومرشح حزب الشعب علي بوظو وغيرهم من الذين فازوا لاحقاً في الدورة الثانية للانتخابات. ويعد مصطفى أمين تلك الانتخابات مثلاً قوياً على نزاهتها وعلى سلامة النهج الوطني الديمقراطي الذي أشرف عليها، وأنها بقيت فريدة في تاريخ سورية وفي تاريخ المنطقة العربية.

كما شارك مصطفى أمين بنشاط في الانتخابات الفرعية التي جرت في دمشق عام 1957 وفاز فيها مرشح اليسار الوطني آنذاك رياض المالكي مقابل مرشح الإخوان المسلمين واليمين الرجعي  مصطفى السباعي.

رغم التزام مصطفى أمين الحزبي، وقيامه بجميع المهام التي كان يكلف بها بكل تفان وإخلاص، إلا أنه اضطهد من قبل قيادة الحزب و(عوقب) بالإبعاد أكثر من مرة دون أن تقدم له مبررات اتخاذ مثل  هذه المواقف ضده. فقد بُلّغ بإعفائه من جميع مسؤولياته الحزبية في أوائل الخمسينات، وكان قد سبقه في (العقاب) (رشاد عيسى) الذي كان مسؤولاً عن منظمة الحزب في دمشق، وعضواً في اللجنة المركزية وسكرتيراً للحزب، إذ صدر قرار بطرده من الحزب، بسبب رفضه التوقيع على مسودة البيان الذي يعلن فيه الحزب تأييده لموقف الاتحاد السوفيتي بالموافقة على تقسيم فلسطين. وللتاريخ يشهد مصطفى أمين أن رشاد عيسى كان من أغنى قادة الحزب ثقافة وأكثرهم إخلاصاً.

لقد أعاد الحزب الاعتبار لمصطفى أمين بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي وسقوط عبادة الفرد هناك. (أما رشاد عيسى فقد أعيد  له اعتباره مع نجاة قصاب حسن والعديد من الكوادر الحزبية  الذين (طُردوا) من الحزب في مراحل مختلفة، في المؤتمر السادس للحزب الشيوعي السوري (الموحد) الذي انعقد في كانون الثاني ،1987 وقد ألقى رشاد عيسى كلمة مؤثرة في المؤتمر المذكور).

إثر حملة الاعتقالات الواسعة التي شنت على الشيوعيين في سورية ومصر منذ مطلع عام ،1959 وبعد اعتقال شقيقه محمد أمين، غادر مصطفى أمين إلى بيروت، ومنها إلى موسكو، ثم إلى براغ ـ تشيكوسلوفاكيا، حيث عمل في هيئة تحرير مجلة (قضايا السلم والاشتراكية) طوال فترة وجوده هناك، وقد زار بصفته تلك كلا من الصين وكوريا الديمقراطية.

بعد انفصام عرا الوحدة السورية المصرية، حاول العودة إلى سورية بالطائرة مع الأمين العام للحزب خالد بكداش أكثر من مرة، إلا أن السلطات لم تسمح لهما بالنزول من الطائرة، ولم تتح له العودة إلى الوطن إلا في 18 آذار1962 وبقي في سورية حتى وقوع حركة 8 آذار 1963 فاضطر بسبب الملاحقة إلى مغادرتها عن طريق الجبال إلى لبنان. وبعد البقاء هناك عدة أشهر لم يتصل به الحزب خلالها،عاد إلى سورية بالطريقة ذاتها.

فور عودته من لبنان قرر مصطفى أمين تجميد عضويته في الحزب، وأبلغ القيادة بذلك (احتجاجاً على سلوك القيادة تجاه أعضاء الحزب، وتعبيراً عن استيائه من المعاملة التي عومل بها من قبل هذه القيادة…) حسبما يورد هو بالذات.

وعندما بدأت داخل الحزب الشيوعي الخلافات التي أدت إلى انقسامه أوائل السبعينات من القرن الماضي (اعتبر أن هذا الانقسام ألحق الأذى بالحزبين وبمجمل الحركة التقدمية في سورية.. وحرص على أن لا يلتزم جانب أي منهما، وعلى أن يحافظ على صلة الصداقة مع الحزبين ومع قادتهما، وكان في الوقت ذاته مؤيداً ومتفقاً مع الفريق المطالب بإعادة بناء الحزب على أسس صحيحة، واستبعاد أسلوب التعيين والارتجال، ومؤيداً لإطلاق حرية النقاش داخل مؤسسات الحزب وهيئاته، مع تركيز الاهتمام أكثر على الأوضاع الداخلية والعربية).

ورغم ابتعاده عن التنظيم الحزبي إلا أن مصطفى أمين استمر بعلاقة طيبة مع الحزب ومع جميع قيادييه وكوادره من جميع الأجنحة التي انبثقت عن انقساماته لاحقاً. ولم يتوان عن تلبية وأداء أي مهمة كلف بها. وقد ظل يكن التقدير والاحترام لقيادة  الحزب في سورية ولبنان: الرفاق خالد بكداش ويوسف فيصل ونيقولا شاوي وحسن قريطم والرفاق الآخرين من القياديين والكوادر الحزبية، فضلاً عن علاقات الصداقة المميزة التي كانت تربطه بالرفاق وصفي البني ومراد قوتلي والدكتور نبيه رشيدات والأديب الكبير حنا مينة، وكذلك مع الكثيرين من القادة الشيوعيين والمثقفين العرب :حسين مروة وأنطون ثابت (لبنان) وخالد محي الدين (مصر) وعبد القادر إسماعيل وعزيز شريف (العراق) والدكتور عبد الرحمن شقير (الأردن).وغيرهم وغيرهم..

كما كانت له صلات وثيقة مع معظم السياسيين البارزين في سورية خلال فترة الخمسينيات، كخالد العظم وبشير العظمة ورياض المالكي،وغيرهم.

بعد رجوع مصطفى أمين إلى سورية عاد إلى ممارسة المحاماة في مكتبه..كما تابع نشاطه في إطار حركة أنصار السلم لغاية عام 1969 وفي لجنة التضامن الآسيوي الإفريقي، وشارك في العديد من المؤتمرات الدولية لهاتين المنظمتين. وكانت له مواقف خاصة مميزة في دعمه الحازم للقضية الفلسطينية في هذه المؤتمرات.

كان مصطفى أمين من أوائل المشاركين في تأسيس حركة تضامن الشعوب الآسيوية الإفريقية عام ،1955 وحضر مؤتمرها الأول الذي انعقد في 27 كانون الأول 1957 واستمر العمل فيها لاحقاً، وفي أواسط شباط عام 1978 كان أحد أعضاء لجنة التضامن الآسيوي الإفريقي الذين جرى اختطافهم في قبرص وأخذهم رهائن، بعد اغتيال مصطفى السباعي رئيس الحركة هناك، إلى أن تم تحريرهم من الطائرة التي كانوا محتجزين فيها في مطار لارنكا، بعد معركة قُتل فيها الخاطفان.

وكان مصطفى أمين المحامي من النشطاء البارزين في ساحة المؤتمرات الحقوقية الدولية. فقد حضر في عام 1955 مؤتمر رابطة الحقوقيين الديمقراطيين الدولية في كالكوتا. ومؤتمر رابطة الحقوقيين الديمقراطيين العالمية في بروكسل عام 1956والمؤتمرات اللاحقة.

منذ مطلع الثمانينيات اتجه مصطفى أمين إلى المطالعة والدراسة والبحث، مع استمراره بمتابعة التطورات السياسية على الساحتين المحلية والدولية، وأخذ يتنقل بين كتب التاريخ والسياسة والفلسفة والاقتصاد. وفي عام 1998بدأ بكتابة المقالات في مواضيع شتيى وخاصة في مجلة (الطريق) التي كان يشرف عليها ويرأس تحريرها الأديب ابن الشعب (كما يطلق عليه الدكتور مصطفى) (محمد دكروب).

وفي الوقت ذاته استمر بمتابعة عمله في مهنته محامياً إلى أن أحيل على التقاعد في 13/4/،2010 وقد  منحته إثر ذلك نقابة المحامين في الجمهورية العربية السورية شهادة تقدير و(درع النقابة) تكريماً له واعترافاً بنشاطه وجهوده التي بذلها في الدفاع عن الحق والعدالة طوال أكثر من ستين عاماً قضاها في ممارسة المحاماة.

تزوج مصطفى أمين عام 1956 من سميرة عواضة، أخت صديقه أيام الدراسة في فرنسا حسن عواضة، التي وقفت إلى جانبه بشجاعة، وتحملت معه قساوة الحياة سواء في الغربة أم في ظل أنظمة العسف والإرهاب، واستمرت- حسبما يصفها هو نفسه- مثالاً للزوجة المخلصة والأم الحنون والمربية الكفوءة، إذ سهرا معاً على تربية بناتهما الثلاث (سها وسحر ورنا) حتى حصلن على أعلى الدرجات العلمية.

لقد فجع مصطفى أمين باستشهاد شقيقه (محمد) إثر الغارة التي شنها الطيران الإسرائيلي على دمشق، وأصابت المركز الثقافي السوفياتي إبان حرب تشرين في 9 أيلول 1973 بعد أن كان محمد قد أمضى ثلاث سنوات مع رفاقه في سجن المزة إبان قيام الوحدة، وقد كان له صديق عمر ورفيق درب. ثم توفيت والدته التي يقيّمها مصطفى تقييماً ثميناً، فهي امرأة عركتها الحياة الصعبة، وخاصة أيام الاعتقالات والسجن والملاحقة ثم التشرد، وكانت تقوم مع أمهات المعتقلين في سجن المزة إبان الوحدة وزوجاتهم وشقيقاتهم، بتنظيم التظاهرات في الشوارع للمطالبة بالإفراج عن الموقوفين ووقف تعذيبهم.

في عام 2006 أصدر الدكتور مصطفى أمين كتابه (صفحات من تاريخ الوطن) سجل فيه الوقائع والأحداث التي عايشها خلال العقدين الخامس والسادس من القرن الماضي، سواء ما يتعلق منها بتاريخ سورية بشكل عام، أم بمواقف الحزب الشيوعي الذي كان عضواً فيه خلالها، وخاصة خلال المنعطفات الأساسية في تلك المرحلة، وعلى الأخص مرحلة قيام الوحدة السورية المصرية، وأبدى الدكتور مصطفى وجهة نظره الهامة في تلك الوقائع والأحداث. (وقد استقيت معظم المعلومات والآراء الواردة في هذا المقال من الكتاب المذكور، ولا يتسع المجال لعرضها كلها في هذا الحيز الضيق).

كما أصدر في عام 2008 كتاباً بعنوان (الإمبريالية الأمريكية خصم  تاريخي للحرية والديمقراطية).

يختم الدكتور مصطفى أمين كتابه (صفحات من تاريخ الوطن)  بقوله:(أؤكد للأجيال القادمة والمعول عليها في إنهاض وطننا، أنه لا خلاص من النفق المسدود الذي يعيشه العالم العربي إلا بإقامة النظام الديمقراطي السليم، نظام الحريات العامة والمساواة والعدالة الاجتماعية والتطور الاجتماعي والثقافي والمادي واللحاق بركب الحضارة العالمية.).

رحل المحامي الدكتور مصطفى أمين عن هذا العالم يوم 15 آب 2014 بعد حياة ثرية بالعطاء دفاعاً عن حرية الوطن وكرامة المواطن، ومن أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي والسلام العالمي.

العدد 1105 - 01/5/2024