تطورات تونس… إلى أين؟

منذ انطلاقتها بوصفها حركة احتجاجية شعبية- حزبية تونسية على يد ملهمها ورمزها المواطن محمد بوعزيزي، الذي أحرق نفسه وعربة خضراواته (في منطقة سيدي بوزيد) التي أطاحت بنظام الرئيس زين العابدين بن علي، تشهد تونس تفاعلات وتغيرات تمس طبيعة النظام ورموزه السابقة، وتؤسس تالياً لما هو قادم أيضاً.

فالحركة الاحتجاجية هذه التي بدأت (عفوية) بسبب من طبيعة الأوضاع القائمة في البلاد، ما لبثت أن تجذرت واكتسبت طابعاً جماهيرياً حزبياً منسجمة بذلك مع تطلعات مواطنيها ورغبتهم في التغيير والديمقراطية الحقيقية. ومثلت تونس الخضراء بذلك باكورة هذا الحراك الجماهيري – الحزبي عموماً. وإذا كانت تونس قد شكلت بداية هذا الحراك، فإنها مثلت إلى جوانب عوامل أخرى داخلية وخارجية وإقليمية ودولية، إلى حد ما، عراقة الحركة التونسية من جهة، واضطرار المؤسسة العسكرية للوقوف على الحياد أيضاً من جهة ثانية، وذلك لأسباب تحتاج إلى بحث خاص تونسي حولها أيضاً.

وكانت الحركة الشعبية – الاحتجاجية التونسية قد شهدت خلال فترة إطاحتها القصيرة نسبياً مقارنة بمثيلاتها من دول المنطقة، برئيس البلاد، تلكؤ القوى الأكثر قدرة وتنظيماً (حركة النهضة، فرع الإخوان المسلمين)، إلى أن اتضحت خلال أيام أبعاد هذه الهبة الجماهيرية واتساعها وقدرتها على (لملمة) الشارع التونسي حول أهدافها المطلبية المباشرة أولاً، وضرورة تغيير طبيعة النظام القائم فيها ثانياً، فضلاً عن الحياد الأجنبي (الاضطراري) وعدم الرغبة في التدخل في الشؤون الداخلية التونسية، الذي لم تتضح آنذاك معالمه وأبعاده، وبالتالي الحفاظ على موقف من الحالة التونسية (الصرفة) بانتظار تحديد طبيعة أبعادها وانعكاساتها.

وإذا مثلت الحالة التونسية بطبيعتها وتركيبة قواها الحزبية والشعبية (باكورة) التغيير في المنطقة، أو ما اصطلح على تسميته ب(الربيع العربي)، فإن ماهية هذه التركيبة الفوقية- الحكومية- التنفيذية الذي اصطلح على تسميتها بالترويكا- حزب النهضة وحليفيه التكتل والمؤتمر الليبراليين، وتقاسمها السلطات التنفيذية والتشريعية والرئاسية، عانت ولاتزال من إشكالياته الداخلية والائتلافية من جهة، ومن حقيقة تنفيذها لبرامجه كترويكا من جهة ثانية.

إذ شهدت تونس منذ الإطاحة بنظام زين العابدين ولاتزال، أحداثاً متسارعة تمثلت في اغتيال المناضل اليساري شكري بلعيد، وأعقبه بشهور قليلة اغتيال المناضل محمد البراهمي بالطريقة ذاتها. ورافق هذين الاغتيالين انسحاب نحو 42 نائباً من المجلس الوطني – البرلمان- ما يشكل خطوة نحو حركة احتجاجية شعبية – برلمانية، تهدف إلى حل الحكومة والبرلمان، وإسقاط حكومة (حزب النهضة) الإخواني.

وفي الوقت الذي أكد فيه المحتجون الذين ينتمون إلى الائتلاف الديمقراطي وقوى اليسار والليبرالية المؤتلفة في إطار الجبهة الشعبية وغيرها من القوى الناصرية والقومية التونسية، إعلانهم تأسيس جبهة إنقاذ وطني على الطريقة المصرية، كذلك إعلان إقامة حركة (تمرد) تونسية، أسوة بنظيرتها المصرية، فإن تطورات الأوضاع في تونس تؤشر إلى ما هو أبعد بكثير من حركة احتجاج جماهيري على أهميته وخصوصيته.

تعد تونس، خلافاً لغيرها من الدول العربية، حاضنة لحركة حزبية جماهيرية عريقة، طالبت مبكراً بالديمقراطية والتعددية، وضرورة قيام نظام جمهوري – برلماني متطور. ومثلت المتغيرات التونسية – الشعبية ركناً أساسياً في هذه التفاعلات، على أهميتها أيضاً. كما تعد تونس قبلة السياسة والعلاقة بين ضفتي البحر الأبيض  المتوسط، ويضاف إليها أساس العلاقة بين ملايين التونسيين أيضاً. أما مسألة (التعايش) و(التوافق) الداخلي التونسي، فقد مثَّل حالة فريدة أيضاً، مقارنة بشقيقاتها العربيات، ومثلت بذلك أيضاً خاصية تونسية تضاف إلى طبيعة نظامها العسكرتاري الذي ارتبط إلى درجة ليست قليلة بالتوجهات الغربية والأمريكية.

ورغم اضطرار العناصر الخارجية إلى الموافقة على، أو الاضطرار إلى التوافق، أو مهادنة (الهبة الشعبية) التونسية، على أهميتها وخصوصيتها أيضاً، فإن انعكاساتها قد اتسعت لتتجاوز تونس بجغرافيتها وعدد سكانها، ولتمثل استجابة لهبة شعبية لم يتوقع الآخرون أن تشمل بلداناً أخرى على أهميتها البشرية والاقتصادية أيضاً.

وكما في حالات بلدان (الربيع العربي) الأخرى المأزومة، تشهد تونس بسبب من تركيبتها الاجتماعية – السياسية، وطبيعة نهجها كدولة، حالة من التناقض الداخلي – الإقليمي، تتلخص في عدم قدرتها على المضي في برنامج فئوي – إخونجي، عنوانه سيطرة حزب النهضة على مقدرات البلاد، وتالياً مقدراتها وتطلعاتها. أما الاستمرار بتونس واحة للديمقراطية الليبرالية العربية أو الأكثر إلحاحاً وجذرية أيضاً، فهذا ما تؤكده التطورات الداخلية التونسية، وهذا ماتؤكده أيضاً حالة الاقتتال الداخلي، كذلك حركة الاغتيالات التي طالت حتى تاريخه رموزاً هامة من شكري بلعيد إلى محمد البراهمي، وصولاً إلى اتساع حركة التمرد السلفي الذي تجاوز حتى تاريخه جبل الشعانبي، الذي مثل مرتكزاً لها. وانعكاسات ذلك على تونس مجتمعاً وقوى وتوجهاً أيضاً، وهي مهمات ليست بسيطة على الإطلاق، وليست تونسية (خالصة) يساهم فيها إلى درجة كبيرة، مواقف القوى السياسية التونسية أولاً، وكذلك المؤسسة العسكرية التي حافظت لأسباب عديدة على حيادها، خلال مرحلة تغيير نظام زين العابدين.

وأما الشعب التونسي الذي يرفض العودة إلى الوراء، ويسعى إلى بناء تونس الديمقراطية – التعددية، وهذا ما أظهرته استطلاعات الرأي العام العديدة، فإن أمامه العديد من المهمات، وفي مقدمتها الحفاظ على تونس الديمقراطية، بعيداً عن الديكتاتورية والعسكرتارية والارتهان للخارج أيضاً.

العدد 1105 - 01/5/2024