32 عاماً على رحيله… رياض الصالح الحسين ما زال هنا!

في العشرين من تشرين الثاني عام 1982 رحل رياض الصالح الحسين عن 28 عاماً هو  عمره وربما عمر تجربته الشعرية!

كيف يكون عمر الشاعر هو عمر تجربته الشعرية؟!

هذه التجربة التي لم تتجاوز سنواتها أصابع اليدين إذا اعتبرنا تاريخ صدور مجموعته الأولى (خراب الدورة الدموية) 1979 بداية نشاطه الشعري على مستوى النشر، وقد تعرّف عليه قراء الشعر في أواسط السبعينيات، لكني لا أخال رياض الطفل ابن مارع (شمال حلب) الذي ولد في درعا (1954) إلا كائناً من الشعر، يجوب أنحاء البلاد لينثر الطفولة والقصائد، يكتب قصائده على ألواح الروح حتى يكبر ويكتبها للناس.

كثيرٌ مما يحصل في حياة الشاعر لا يبدو وليد المصادفة، أقصد الشاعر ، بوصفه (نبّي قومه)، لذلك يمكن القول إنه  لم يكن مصادفة ـ ربما ـ أن يصاب بالصمم عام ،1967 ولم يكن قد تجاوز الثالثة عشرة من العمر، فلم يتمكن من إكمال دراسته، لكنه عاند قدره وتابع تثقيف نفسه.

على سريرٍ بارد في مشفى المواساة بدمشق رحل رياض، كما لو أنه في أجواء إحدى قصائده التي نشر منها ثلاث مجموعات في حياته، ثم قامت وزارة الثقافة بإصدار المجموعة الرابعة (وعل في الغابة) عام ،1983 بعد رحيله، هل هي هذه النبوءة كتبها رياض قبل رحيله، في مطلع مجموعته الثالثة (الأخيرة خلال حياته)؟! ألا تشي بالموت؟!

هناك رائحة ما

ليست كرائحة الملابس القديمة

وبطاقات التعزية

والمستنقعات

رائحة ما…

حادَّة، متردِّدة، مسكينة

كدموع بنت تبكي دميتها المحطَّمة

رائحة…

تدخل غرفتي بخجل في الصباحات الباكرة

تغسل وجهي

وتستمع مثلي لأغنية حزينة آتية من الأعماق

رائحة…

تذكِّرني دائمًا

بجنود عائدين من الحرب

وبحر

وفتاة كانت تطاردني ضاحكة

في حقول القطن

(بسيط كالماء.. واضح كطلقة مسدس)

ربما كانت نبوءة الشعراء هي النبوة الأرضية الواقعية، والحالة الشعرية هي في حالة وحي وقلق حتى تكاد القصيدة تقول: زملوني دثروني..

لكننا نعود ونتساءل: من أين تأتي أهمية شاعرٍ كرياض لم يعش سوى 28 عاماً، ولم ينشر سوى أربع مجموعات شعرية؟!

بل إن قصيدته إشكالية بكل ما تعنيه كلمة إشكالية من معنى في خروجها على الأنماط المتعارف عليها في التجارب الشعرية السابقة والمعاصرة لرياض، حتى تلك التي تنتمي منها إلى (قصيدة النثر)، فكيف تحقق قصيدة متمردة على الذائقة الشعرية السائدة حينذاك هذا الحضور وهذا الخلود؟!

السؤال يحمل كل مبرراته، ويسأله الكثيرون من النقاد والمتابعين والمهتمين بالشعر السوري والعربي.

لا ادّعي هنا تقديم إجابة ناجزة عن السؤال، لكن ما أفعله هنا هو محاولة مبتسرة في إعادة قراءة المنجز الشعري لهذا الشاعر الذي شكل علامة فاصلة في الشعر السوري الحديث، حتى نكاد نستطيع القول إنه صار مدرسةً في الكتابة الشعرية حين جاءت عشرات التجارب الشعرية من بعده وحتى الآن تحاكي تجربته الفريدة والمميزة في كتابة قصيدة نثر لا تأبه بالضجيج اللغوي والرطانة اللفظية التي حفلت بها قصيدة التفعيلة، ولا بالغموض المزمن الذي لازم تجارب روّاد قصيدة النثر الأوائل باستثناء الماغوط، لكن رياض تجاوز حتى تجربة الماغوط ليبني بدأب وهدوء نصاً خافتاً عالياً حافلاً بالإشارات والرموز، بسيطاً كالماء، واضحاً كطلقة مسدس، يهزّ بعنف (الأحجار التي لا تحبّ الموسيقا) ولا يتعب من الحب، لم يقترب من القضايا الكبرى كما كان دارجاً حينذاك، لم يستحضر الأساطير في كل جملة شعرية كما كانت تلوذ قصيدة النثر، كتب ما يراه وما يشعر به كإنسان عادي، ربما تكمن معجزته ـ إن صحت التسمية ـ في تحويل العادي، العادي جداً، إلى قول شعري دون أن يتكىء على موسيقا ووزن وقافية، ودون أن يتكىء إلا لماماً على مقولات كبيرة وذات جرس تاريخي أو عقائدي أو ديني.

حارٌّ كجمرة

بسيط كالماء

واضح كطلقة مسدَّس

وأريد أن أحيا

ألا يكفي هذا

أيَّتُها الأحجار التي لا تحبُّ الموسيقا؟.

الشاعر الذي يمدّ قصيدته إلى الأشياء المهملة في حياتنا، الأشياء التي نتعثر بها ونحن نركض وراء السراب، لا نلتفت إليها، فينفخ فيها من روحه، لتتحول إلى كائنات شعرية تعلو وتعلو، هنا مكمن الدهشة التي يقترفها رياض، هنا أحد أهم جوانب تميزه واختلافه.

حتى سميت قصيدته بالقصيدة اليومية، قصيدة التفاصيل، تاريخ الهامش المنسي جانباً.

كان كطفلٍ يلعب بالعالم، بالكرة الأرضية، وحين يتعب يرميها جانباً، ويعود لحبيبته ليسرد لها كل ما حدث له، فتكون القصيدة، ربما يمكن تفسير الولادة الشعرية، مخاض القصيدة على هذا النحو تماماً.

القصيدة من شعر رياض كان شاغلها الإنسان، وحريته، مفردة الحرية تكاد تكون الأكثر ترداداً في قصائده، هذا الهاجس الشعري والحياتي عنده كان مؤشراً إلى ما ستقف عنده الأحلام الكبرى للناس منذ بدء تشكل الدولة الوطنية في المشرق بعد رحيل الاستعمار، أحلام التحرر والديمقراطية والوحدة والعدالة الاجتماعية والاشتراكية، كل هذه الأحلام توقفت أمام عقبة كأداء هي غياب الحريات الفردية، والحرية كانت عنوان هزّات وزلازل ما زلنا نعيش امتداداتها الآن، بغض النظر عن الاستثمار السياسي ومصالح الكبار، أليس هذا أيضاً من آيات نبوءة الشاعر؟

انظروا إليه

انظروا إليه فقط

لقد تفسخ جسده

منذ زمن بعيد

وما زال يحمل راية الحرية

(الوعل في الغابة)

سمةٌ اخرى تسم قصائد رياض الصالح الحسين: الولع بالتعاريف، وقد وسمت القصيدة السورية بعده، ليست التعاريف بمعناها الضيق، هي ما يشبه (البورتريه) لشخوص وحالات ومفاهيم.

 طبعاً الأمر هنا يختلف عن مفهوم التعريف في المنشورات المؤدلجة التي تلبس لبوس الأدب، فليس ثمّة مفهوم ناجز في القصيدة كما تفعل الأيديولوجيا، بل ثمة مدى مفتوح للمعنى، هنا (بورتريه) للعدالة:

العدالة هي أن أركض مع حبيبتي

في أزقّة العالم

دون أن يسألني الحرّاس عن رقم هاتفي

أو هويّتي الضائعة

العدالة هي أن ألقي بنفسي في البحر الشاسع

وأنا واثق بأن أحدًا لن يمسكني من أذني

ويقودني – مرّة ثانية إلى القبر

بدعوى أن الإنتحار لا تقرّه الشرائع

والقوانين

العدالة هي أن آكل رغيفي بهدوء

أن أذهب إلى السينما بهدوء

أن أغني بهدوء

أن أقبّل حبيبتي بهدوء وأموت بلا ضجة

(خراب الدورة الدموية)

رياض الصالح الحسين شاعر عاش عمراً قصيراً لكنه سيبقى طويلاً حالة جديرة بالدراسة من النقاد ودارسي تاريخ الشعر السوري والمنقبين عن الدهشة الصافية العذبة، عن النبوءات الطفولية والهمس الصاخب.. هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن الشاعر والتجربة، وما فعلنا سوى تحية لذكرى رحيل هذه الظاهرة السورية اللافتة والمستمرة، وإذا كان ثمة أيقونات للشعر فلا ريب أن رياض هو إحدى هذه الأيقونات فيما يخص الشعر السوري، ويقيناً أنه لم يمت.

 

كتبه المنشورة

 (خراب الدورة الدموية) إصدار وزارة الثقافة السورية 1979.

(أساطير يومية)  وزارة الثقافة السورية 1980.

(بسيط كالماء .. واضح كطلقة مسدس) دار الجرمق 1982.

 (وعل في الغابة)صدرت بعد رحيله عن وزارة الثقافة السورية 1983.

العدد 1107 - 22/5/2024