المشهد المصري… الاستحقاقات والتبعات

تتواصل التفاعلات في مصر، وخاصة منذ التغييرات التي أعقبت احتجاجات 30 يونيو/حزيران الماضي ونتائجها، التي أظهرت مواقف ملايين المصريين (32 مليون توقيع)، الرافضين للأخونة والانفراد والاستثناء، وضرورة (التشاركية) الفعلية بين مجموع قوى ثورة يناير/كانون الثاني عام 2011. في الوقت الذي تزداد فيه الاصطفافات والتجاذبات في الشارع المصري، وفي صفوف قواه، بين الداعين إلى التعددية الحزبية- الشعبية من جهة، وبين الساعين إلى مواصلة الانفراد والهيمنة على مفاصل الدولة المصرية ومؤسساتها كافة من جهة ثانية، فضلاً عن موقف المؤسسة العسكرية المؤيد لمواقف الغالبية الكبرى من الشارع المصري، والمشرعن والمقونن لشعاراتها وتوجهاتها، وانعكاسات ذلك كله على الأزمة المصرية ومواقف القوى الأخرى تجاه تطوراتها.

فقد جمعت قوى الاحتجاج الرافضة للأخونة (جبهة الإنقاذ، حركة تمرد، شباب الثورة.. إلخ) أكثر من 32 مليون توقيع، دعوا إلى التظاهر والاعتصام الجماهيري في 30 يونيو/حزيران، ضد نظام الأخونة والتفرد، وإلى إجراء انتخابات مبكرة رئاسية وبرلمانية، أيدتها القوات المسلحة ببيان صدر عن وزير الدفاع الفريق الأول عبد الفتاح السيسي، بعيد اجتماعه مع مختلف القوى المصرية، باستثناء (حزب الحرية والعدالة الإخواني الذي قاطع هذا اللقاءات). دعا في ختام اجتماعاته إلى منح 48 ساعة لمختلف الاتجاهات لحل الأزمة الداخلية المصرية، وبضمنها مواضيع الانتخابات المبكرة الرئاسية والبرلمانية، ووقف الانفراد، وإلى (تجديد) الهيكلية الرئاسية- الحكومية المصرية، بانتظار إجراء هذه الانتخابات.

وإذ أعلنت القوات المسلحة إجراء تعديلات في هيكلية النظام، وبضمنها عزل الرئيس محمد مرسي لصالح رئيس مؤقت القاضي عدلي منصور، والدعوة إلى وقف التظاهر والاحتجاجات، وإلى التوافق على تواريخ محددة لإجراء الانتخابات الرئاسية- البرلمانية، فإن حركة الإخوان المسلمين وحزبها السياسي (الحرية والعدالة) واصلت تحديها لهذه القرارات شبه الجماعية لقوى مصر، وأصرت على مواصلة الاحتجاجات في الميادين المصرية، الأمر الذي اضطر الرئيس المؤقت ورئيس حكومته المؤقتة إلى المطالبة بوقف هذه الاحتجاجات والتحضير للهدف الرئيسي المتمثل في إجراء انتخابات مبكرة، وفي التوصل إلى حكومة مؤقتة (رفض الإخوان المشاركة فيها) حتى إجراء الانتخابات المطروحة.

وقد شهدت الأسابيع التي أعقبت التحضير السريع (خلال 72 ساعة) في التركيبة القيادية المصرية، إصراراً إخوانياً على مواصلة الاحتجاجات واحتلال الساحات العامة والصدام مع المؤسسة العسكرية ومع التركيبة الرئاسية – الحكومية المؤقتة ومؤسساتها.. وعلى وصف هذا الإصرار  بأنه (تعبير) عن حركة الشارع المصري، الذي أوصل إلى تطبيق قرار (الرئاسة، الحكومة، المؤسسة العسكرية) بإخلاء الساحات والدفاع عن مقارّ ومباني الدولة ومؤسساتها وتبعاته المستمرة منذ 30 يونيو/حزيران حتى تاريخه، والذي تلخص في صدام مباشر بين المؤسسات الحكومية – النظامية وبين حركة الإخوان المسلمين وما تمثله. وبرز ذلك جلياً في محاولاتها احتلال المباني الحكومية، أو تعطيل عمل المؤسسات الحكومية، وشل حركتها ونشاطها.

هذه التفاعلات أفرزت حالة مصرية داخلية عنوانها الاصطفاف والتجاذب بين غالبية القوى الديمقراطية والليبرالية والوطنية، التي تؤيدها المؤسسة العسكرية من جهة، وبين حركة الإخوان وأنصارها من جهة ثانية، والتي مازالت مفتوحة على احتمالات عديدة، بدءاً من تطبيق ظروف وشروط (الحالة المؤقتة) بانتظار الانتخابات المبكرة (الصدامات العسكرية، مصادرة أسلحة، حالة طوارئ مؤقتة)، في ظل إصرار حركة الإخوان على التمسك بالسلطة ومفاصلها، وصولاً إلى الهجمات المسلحة على المباني الحكومية والكنائس والمقار المدنية.

وتزداد الحالة المصرية أهمية في ظل المواقف العربية والإقليمية والدولية، تجاه هذه الحالة وتبعاتها مصرياً وعربياً وإقليمياً أيضاً. ففي الوقت الذي تظهر فيه هذه المواقف تبايناً وتعارضاً، وخاصة في صفوف دول ما يسمى ب(الربيع العربي) والدول (العربية) و(الإقليمية) و(الدولية) الداعمة لها (المواقف السعودية المبكرة المؤيدة للتغييرات في مصر، والموقفين التونسي- التركي الإخوانيين الرافضين لهذه المتغيرات، الموقف القطري المضطرب أيضاً)، فضلاً عن المواقف الغربية، بدءاً من الولايات المتحدة وانتهاء بأوربا (دولاً واتحاداً) من المتحفظ والمؤيد أو المعارض لما يجري في مصر، والخشية من وقوع مصر في إطار الخلاف الداخلي، واستنساخ تجربة الأزمة السورية الراهنة، إلى الخشية والارتباك حول نتائج هذه التفاعلات وتداعياتها مصرياً وإقليمياً، مروراً بكيفية التعاطي مع التطورات الداخلية المصرية وتبعاتها على مصر ومحيطها في الحد الأدنى.

مصر التي دخلت في أزمة عنوانها القاهرة وما تمثله، تعيش حالة من الاضطراب الداخلي، ومن الاصطفافات والتجاذبات التي ترافقها، إلى مواقف دول الجوار والمنشغلين بالأزمة المصرية، على أهميتها وتبعاتها، مروراً بالمواقف الغربية المضطربة وغير المتوازنة تجاه ما يجري في مصر عموماً. كما تؤشر التطورات الجارية فيها إلى احتمالات عديدة، من استمرار الأزمة الداخلية، وبخاصة بين الإخوان والدولة ومؤسساتها إلى جانب مواقف القوى المصرية الحية الأخرى وتداعياتها، فضلاً عن تبعات ما يجري في مصر على دول ما يسمى ب(الربيع العربي) وداعميها، وهذا ما نشهده في مصر بوصفها أنموذجاً لما يجري في المنطقة، وإلى حقيقة تعاطي الدول الأخرى معها.

ورغم أن التفاعلات الداخلية المصرية تلقي بثقلها على الساحة المصرية (شعباً، قوى، دولة، مؤسسة عسكرية.. إلخ)، وبوصفها الدولة العربية الكبرى والمركزية، والمقر الرئيس لحركة الإخوان المسلمين، فإن المواقف تجاهها تظهر كيفية التعاطي مع مصر وأزمتها وانعكاساتها أيضاً.. وإن ما يجري في مصر ما هو إلا مقدمة لاستمرار التفاعلات الجارية على اختلافها وطبيعة منحاها، في المنطقة عموماً، وفي مصر وما تمثله خصوصاً.

العدد 1105 - 01/5/2024