رحابة الشعر حدود السياسة

استضاف ملتقى جرمانا الثقافي في إحدى جلساته مؤخراً كلاً من الزميل مالك صقور عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الكتّاب، والدكتور رضوان قضماني عضو اتحاد الكتاب، في ندوة نقدية: ماياكوفسكي، شاعراً ومسرحياً، وكان برفقتهما الدكتور نضال الصالح عضو اتحاد الكتاب، الذي عبر عن غبطته بإنجازات الملتقى واستمرار ندواته ومكانة المشاركين فيه.

أجاب مدير الجلسة رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب في ريف دمشق، الشاعر الدكتور نزار بريك هنيدي، عن سؤال أحد المشاركين لماذا اختير ماياكوفسكي موضوعاً للندوة، فجاء جوابه، أردت الجمع بين المحاضرين في جلسة واحدة، فاخترت موضوعاً مشتركاً بينهما.

والسبب كما أعتقد قد يبدو أبعد من ذلك، وهو أن التجربة الإبداعية للشاعر ماياكوفسكي وانتحاره، تطرحان سؤالاً قديماً جديداً، حول إشكالية العلاقة، بين السياسي والثقافي، وبدقة أكثر، بين السياسي (الحزبي) والثقافي (الشاعر)، وهو من أكثر الأسئلة تعقيداً إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة التكوين البنيوي للشاعر، بحساسيته المرهفة وردود أفعاله على ما يحيط به من ظواهر، في سياق الأطر والهوامش المتاحة له للتعبير عن آرائه، وبالتالي الوظيفة التي يقوم بها، وجوهر العملية الإبداعية لديه، بمعنى آخر، ما علاقة السياسي بالفني في التجربة الشعرية.

من المعروف للجميع أن ماياكوفسكي لقب بشاعر الثورة، وعاش أحداثها حتى عام 1930 وهو عام انتحاره المريع، وقد عرف شخصياً أهم قياداتها: لينين، لونتشارسكي، ستالين، وكان لهم موقف من شعره ومن إبداعه بشكل عام… ففي إجابة لينين عن سؤال حول شعره قال: شعره جيد، ولكن شعر بوشكين أجمل، كما أورد المحاضر الأستاذ مالك صقور.

هذه الإجابة تفضي إلى أكثر من سؤال، هل هي إجابة عن تجربة شعرية، تحتاج إلى تأمل قبل إطلاق الحكم عليها، أو أنها إجابة رجل دولة وسياسة وحزب، تعبر عن موقفه من الشاعر، وبالتالي تعيد طرح السؤال الأهم حول علاقة السياسي بالثقافي، ومدى سعة صدر السياسي لتقبل مزاجية الشاعر وحدة انفعاله.

المقارنة في هذا السياق بين ماياكوفسكي وبوشكين، وإطلاق جواب قطعي ثبوتي، هي موقف سياسي، أكثر منها موقف فني، لأن الأجوبة في الفن، نسبية، وقابلة للحوار، ومتعلقة إلى حد بعيد، بالذائقة التي تختلف باختلاف ثقافة الناس، كما أن حرية الشاعر ليست مطلقة، ولا يحكمها فوران عاطفته.

أما عن أسباب انتحار الشاعر التي وضحها الباحث، وأحال جزءاً منها إلى المفارقة بين رؤية الشاعر المؤسسة على تشكله المعرفي، والواقع الذي كسر أحلامه، هذا الاستنتاج قريب من الحقيقة، إذا أضفنا إليه الإخفاقات الشخصية (العاطفية) للشاعر، فلو أن كل شاعر أخفق في تجربة عاطفية قادته إلى الانتحار، لأصبح عدد الشعراء في العالم أقل مما هو عليه بكثير، وبصدد ماياكوفسكي فقد تلاقى الخاص (الشخصي) مع العام الاجتماعي السياسي في تجربة الشاعر الحياتية والإبداعية.

أهمية المحاضرة، تكمن في إعادة طرح السؤال في مرحلة من أخطر المراحل التي تمر به بلادنا والمنطقة والعالم، إذ يكثر الحديث عن موقف المثقف ودوره، وعن أهمية الكلمة وفاعليتها، في مواجهة الظلامية والإرهاب الدموي والتخريب الممنهج لمنجزات الشعب السوري التاريخية في مشروع تبلور دولته الوطنية، وصيانة نسيجه الاجتماعي.

في هذه المرحلة العصيبة والفارقة، تتزايد أهمية المثقف ويتعاظم دور السياسي، ويصبح اللقاء بينهما ضرورة موضوعية، وعليهما تقع مسؤولية تصحيح العلاقة ونقلها من التصادم والصراع إلى حقول الاختلاف والتوافق.

في هذا السياق لا يمكننا أن نتغافل عن أسباب انتحار الشاعر خليل حاوي، ونجيب سرور، وغيرهما، وما الموقف من رحيل الشاعر سعيد عقل، إلا إثارة جديدة للمسألة (علاقةالسياسي بالثقافي)، وهل يحاكم الشعراء بقوانين وأنظمة السياسة، أو بمعايير الجمال والفن؟

مهما كانت مسؤولية الشاعر، عن إقدامه على الانتحار، فعلينا دائماً أن نسائل السياسي عن ذلك، صحيح أن الضحية ليست بريئة، من دمها، ولكن انتحار يسينن، ثم بعده بثلاثة أعوام ماياكوفسكي، تستدعي أسئلة مقلقة، وتعيد إلى الصدارة، مجدداً التأمل في العلاقة الشائكة، بين الثقافي والسياسي.

حديث الدكتور رضوان قضماني، عن التجربة المسرحية لماياكوفسكي وعلاقته بالمخرج العالمي المعروف، ميرخولد الذي غُيّب في منافي سيبيريا، أضافت بعداً آخر للسؤال، وعمقاً جديداً للإجابة عنه.

مما لا شك فيه أن تفكك الاتحاد السوفييتي قد غيّر العالم، كما غيرّته ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى ، التي من بعض ثمارها في هذا الصدد، اللقاء بين ثقافتين، وتجربتين، تجسدتا في شخص كل من المحاضرين، في عملية تخصيب ثقافي مثمر.

بمقدار عظمة الدول، وضخامة إنجازاتها تكون الأخطاء قاتلة فيها، نأمل بأن يكون عدد المنتحرين من المثقفين والشعراء في بلدنا وفي العالم أقل، لأن إقدامهم على هذه الفعلة بهذه القسوة، على أنفسهم، وعلى قرائهم، وعلى الآمال المعقودة عليهم، بوصفهم رواد القافلة وحداثها، يضعف من إمكانات المقاومة لدى شعوبهم.

العدد 1105 - 01/5/2024