شارلي شابلن.. قصيدة سينمائية إنسانية عبقرية خالدة…

روح القتل بالجملة مسيطرة على العالم، ومدنيتنا المعاصرة تريد تحويلنا جميعاً إلى سفاكين بالجملة… 

الديكتاتوريون مضحكون.. وخطتي هي أن أجعل الناس يضحكون عليهم…

 

في ليلة عيد الميلاد عام ألف وتسعمئة وسبعة وسبعين تمدّد واحد من أكثر الفنانين عبقرية وإبداعاً في التاريخ السينمائي… تمدّد على فراشه وأغمض عينيه كطفل وديع، وفارقنا فراقاً أبدياً… ففي هذه الليلة (المباركة) ودّعت السينما العالمية الممثل والمخرج والموسيقي والمغني وراقص الباليه ورجل (الصناعة) والكاتب والمفكر والقلب الحاني المثقل بالمحبة العميقة للإنسان.. ودّعت القصيدة السينمائية الإنسانية العبقرية الخالدة (شارلز سبنسر شابلن) الذي أبدع شخصية المتشرّد الصغير (شارلي).

لقد ولدتْ شخصية (شارلي)، ذلك (الرجل الصغير) الذي يتسكع في الطرقات بشاربه المتميز، وبنطاله الممزق، مرتدياً قبعته، وممسكاً بعكازه الملتوية، ومنتعلاً حذاءه الغريب الضخم، يسير به كالبطة… ذلك (الرجل الصغير) الذي صار في العشرين من عمره، قارئاً نهماً للفلسفات المختلفة، وللأدب والطب والاقتصاد السياسي والشعر… ولدتْ من رحم فيلم (تحت الأمطار)، وهو فيلم لايستغرق عرضه أكثر من عشر دقائق، إلا أن هذه الشخصية كانت صورية، شكلية فقط، ولم تتجلَّ الروح فيها بجلاء إلا مع ظهور فيلم (الطريق السهل).

لقد أظهر شارلي في معظم أفلامه المشبعة بالروح الإنسانية العميقة بسطاء الناس وحياتهم الصعبة العسيرة.. في عالم يضج بالعنف والظلم والقسوة والزيف والركض المحموم وراء المال وجمعه وعبادته… ففي فيلم (حياة كلب) صوّر شارلي العامل المتشرد العاطل عن العمل، الذي يعيش عيشة الكلاب.. وقد اختار (مكتب العمل) مكاناً تجري فيه أحداث الفيلم التي تبدأ بمعركة بين العمال العاطلين أنفسهم في مكتب العمل، وكل واحد من هؤلاء العمال يحاول أن يحصل على العمل الوحيد، وكأنهم مجموعة من الكلاب الشاردة تتنازع عظمة ملقاة على قارعة الطريق.. لقد أراد شارلي أن يقول لنا عبر هذا الفيلم : إننا بشر، ولسنا كلاباً، وإن أسوأ مايمكن أن يصيب الإنسان، أي إنسان، هو أن يكون بلاعمل، وبلاحب، وبلا كرامة…

و دخل شارلي شابلن ميدان الأفلام الروائية الطويلة، فأخرج عدداً من الأفلام التي انتقد فيها بشدة فوضى وأسلوب الحياة الأمريكية، وسخر من رجال الطبقة العليا، ومن الرجال الوجهاء والمتأنقين، كما سخر من رجال الدين المنافقين، ورجال البوليس، والقضاة، وأرباب العمل، والقادة، والملوك، والزعماء… وساهم شارلي شابلن عام ألف وتسعمئة وثلاثة وعشرين في تأسيس شركة الفنانين المتحدين، وكان فيلم (الرأي العام) باكورة إنتاجها السينمائي، إلا أن أفلام شارلي الرئيسة أنتجها هوبنفسه، ومن أبرزها (الديكتاتور) و(الأزمنة الحديثة) الفيلم الذي ارتفع فيه شارلي شابلن إلى مستوى الموضوعات الكبرى في العالم المعاصر، ومعالجتها بقالب كوميدي مأساوي الطابع… وهذا الفيلم السياسي الرفيع يحمل إدانة واضحة ومباشرة لأسلوب العمل والحياة في نطاق العلاقات الرأسمالية المتوحشة التي تهين الكرامة الإنسانية…

«الديكتاتور»

 عندما أعلن شارلي شابلن بدء العمل في تنفيذ فيلم (الديكتاتور) قامتْ قيامة النازيين والفاشيين، فاحتج عليه القنصل النازي في هوليوود، وهدد السفير الألماني المنتجين الأميركيين بمقاطعة جميع أفلامهم في ألمانيا إذا أخرج شارلي هذا الفيلم، ووقفتْ هوليوود موقف الحياد في الكفاح القائم ضد النازية والفاشية.. ولكن فيلم (الديكتاتور) رأى النور رغماً (عنهم)، وعُرض في تشرين الأول سنة ألف وتسعمئة وأربعين ولاقى نجاحاً كبيراً… وكل من شاهد (الديكتاتور) لايستطيع أن ينسى مشهداً يعدّ من أبدع مشاهد الفيلم، وهو تلك الرقصة التي يؤديها (هينكل) وهو يلعب بالكرة الأرضية، إذ تنفجر الكرة فجأة وعلى أثر هذا الانفجار يقفز (هينكل) إلى الستائر المسدلة، ويتعلّق بها كفأر مذعور، وفي عينيه استقرّ اليأس والأسى… إنّ فيلم (الديكتاتور) صرخة احتجاج مدوية ضد نمو النازية والفاشية في أوروبا، سخر فيه شارلي من (هتلر) و(موسوليني) سخرية حادة، فعمل على تهشيم شخصيتهما، وتحطيم هيبة كل منهما، وأدانهما، وحذّر من أخطار حركتيهما على الإنسانية والبشرية جمعاء…

وفي هذا الفيلم ينطق شارلي شابلن على الشاشة السينمائية للمرة الأولى، ويدعو إلى المقاومة والنضال ضد النازية والفاشية معتبراً ذلك واجباً أخلاقياً وإنسانياً وكفاحياً.. متجاوزاً بذلك حدود المأساة الفردية من جهة، ومظهراً من جهة ثانية صورة أخرى من صور الالتزام السياسي لديه.

في البدء كانت الكلمة… وفي النهاية كانت ضريبتها!

وأخيراً كان لابدّ من أنْ يدفع شارلي شابلن الثمن… فالنازيون والفاشيون وعموم الرأسماليين بقوا يحفظون لشارلي في صدورهم الآثمة انتقاده ومهاجمته وإدانته لهم، وسخريته منهم، وضحكه عليهم، وتحديه لسلطانهم… لم يترك الرأسماليون ورجال المال شاردة، أو واردة تتعلق بشارلي شابلن إلا وحاولوا استغلالها والاستفادة منها للتشهير به، وتشويه سمعته، ومن ثم الانقضاض عليه والتخلص منه نهائياً، مستخدمين مختلف الوسائل وأقذرها لتحقيق ذلك. فقررت ست ولايات أمريكية منع عرض أفلام شارلي في دور العرض فيها… وهاجمت، بشكل دوري ومستمر، معظم الصحف الأمريكية شارلي هجوماً عنيفاً، واتهمته بأنه يدعو الناس إلى ما أطلقتْ عليه هذه الصحافة اسم (الجنة الحمراء)(؟!) ومزجت عن عمد وقصد بين حياته الخاصة وحياته العامة (المهاجر الإنكليزي القذر ـ الجبان ـ الفاسد ـ المتعاون مع الشيوعيين ـ المعادي لأمريكا والرافض لجنسيتها..). وبدأ الصحفيون (وأكثرهم أعداء ألداء له) يتهافتون على شارلي، ويسألونه تلك الأسئلة المخابراتية البوليسية، ومنها: هل أنتَ بلشفي؟ مارأيك في (لينين) وهل تفكر في مقابلته ؟ لماذا لم تتجنّس حتى الآن بالجنسية الأمريكية ؟ لماذا طالبت أثناء الحرب (العالمية الثانية) بفتح جبهة ثانية لمساعدة روسيا ؟ هل أنت صديق للمؤلف الموسيقي (هانز ايسلر) المعروف بأنه شيوعي ؟

واستمر الهجوم، وتكررت الحملات الصحفية المنظمة عليه، وهدفها الذي لاتحيد عنه هو القضاء نهائياً على شارلي شابلن وسمعته، ونفيه من أمريكا، ومنعه من إتمام رسالته في الفنّ السابع…

وماذا بعد ؟ اتجهت لجنة النشاط المعادي لأمريكا نحو فناني هوليوود، واستخدمت هذه اللجنة الصحافة والإذاعة والتلفزيون للدعاية للذين سيؤدون الشهادة أمام اللجنة ضد أصحاب النشاط الشيوعي من الفنانين.. فقال على سبيل المثال (روبرت تايلور) عبر شهادته :

شارلي شابلن رجل خطر، ولو استمعتم إلي لنفيتم كل الشيوعيين إلى روسيا، أو أي مكان آخر لايطاق العيش فيه ؟

عام متشح بالسواد والغمة والإرهاب

في عام ألف وتسعمئة واثنين وخمسين تفاقم الإرهاب الفكري والثقافي على المثقفين والفنانين في الولايات المتحدة الأمريكية، واشتدت حملات المكارثيين (نسبة إلى السيناتور الأمريكي جوزيف ريموند مكارثي من الحزب الجمهوري في العقد الخامس من القرن العشرين) ومطاردتهم لكل فكر مخالف للأيديولوجية السائدة، ولكل نهج ثقافي لا يسير وفق المنهج الإمبريالي (…)، وذهب هؤلاء المكارثيون إلى حظر أيّ نقد اجتماعي، أو سياسي، أو فكري، أو ثقافي عموماً، ووضعوا كلّ من يقوم بهذا النقد في قوائمهم السوداء الشهيرة… وكان شارلي شابلن يتصدر تلك القوائم الإرهابية الغاشمة سيئة الصيت…

وأحكم الحصار على شارلي شابلن إحكاماً شديداً قاسياً، بل مدمراً، فالهجوم متواصل، والتضييق والحرب النفسية دائمة عليه، هذا من جهة، ومن جهة ثانية كان النواب والشيوخ الأمريكيون ناقمين عليه ويطالبون بنفيه، ومن جهة ثالثة بقيت الحملات الصحفية المنظمة والشرسة مستمرة ضده، وسيف الاتهام بالشيوعية وبالنشاط المعادي لأمريكا ما زال مسلطاً على رقبته من جهة رابعة.

بناء على هذه الوقائع والمعطيات، وجد شارلي شابلن نفسه مكرهاً على مغادرة أمريكا بعد أربعين سنة قضاها فيها، ومعه زوجته وأولاده. وبعد يوم واحد فقط من رحيل شارلي الاضطراري عن الأراضي الأمريكية أعلن وزير العدل الأمريكي أن تحقيقاً سيقام حول تصرفات شابلن السياسية ونشاطه المعادي لأمريكا (..؟) وأنه أعطى التعليمات لإدراة الهجرة بحجز الممثل شارلي شابلن إذا حاول العودة إلى أمريكا، وسوف تطبق عليه كل الإجراءات التي تطبق على المهاجرين من تحقيق وحجز وسجن… وفي الوقت نفسه أعلنت مختلف الصحف الامريكية أن التحقيق أثبت إدانة شابلن، وأنه سيسجن لوعاد إلى أمريكا، وطالبت هذه الصحف (؟) بمنع شابلن من العودة مجدداً إلى أمريكا تحت أيّ ظرف من الظروف وفي أيّ حال من الأحوال…

ولاعجب في ذلك، فشارلي شابلن رفض رفضاً قاطعاً أن يفعل ما فعلته هوليوود (وهي عصب الصناعة السينمائية الأمريكية) في كثير من الحالات والقضايا الأساسية والجوهرية. فشابلن لم يتواطأ يوماً مع وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) التي كانت تقدم مختلف أنواع المساعدات المادية منها والمعنوية لأيّ فيلم ينال رضاها، والتي كانت تستعمل المال سلاحاً فتاكاً ضد أيّ منتج لايسير وفق هواها، والعكس صحيح… ولم يقم شابلن بأيّ عمل فنيّ ذي طابع دعوي ترويجي، أو إيهامي مضلّل… ولم يجمّل (البيت الأبيض) ولم يكن خادماً مطيعاً وتابعاً ذليلاً للسياسة الأمريكية الخارجية ولصنّاعها، كما لم يقدم على تلميع صورة القوة الأمريكية الأسطورية، ولاسيما على الصعيدين العسكري والمخابراتي…وإلى ذلك جميعاً.. لم يمهّد شارلي شابلن فنياً للحروب الأمريكية على مختلف الشعوب (…) ولم يعمل عن طريق الصورة وثقافتها، على تهيئة الرأي العام الأمريكي (وغير الأمريكي) كي يقبل بهذه الحروب العدوانية المجرمة، ومن ثم مساندتها ودعمها.. كما لم يستخدم (سلاح) الفنّ السابع من أجل تمرير السياسات الأمريكية على مختلف المستويات، ومن أجل تسويغ الوجود العسكري الأمريكي في هذا البلد أو ذاك عبر مزاعم (الحق والعدالة وحقوق الإنسان والديمقراطية والسلام والأمن ومحاربة الإرهاب والضرورة التاريخية) (..؟).

لقد وقف شارلي شابلن بحزم وشرف ورجولة ووعي.. مع الإنسان والحرية والسلام، وضد النازية والفاشية وسفك الدماء بالجملة و (بالمفرق)، وضد الحروب العدوانية الوحشية، وأدانها بلا مواربة وبلا هوداة، كما أدان أسلوب العمل والحياة في نطاق العلاقات الرأسمالية الساحقة… ودعا إلى التصدي له ومقاومته والعمل من أجل بناء مجتمع إنساني عادل نظيف… وفي نهاية المطاف استطاع شارلي شابلن الانتصار للفن والإنسان معاً وفي آن واحد.

العدد 1104 - 24/4/2024