ورقة الكيميائي من جديد… وسيناريوهات التدخل العسكري الأمريكي

أعاد مجلس الأمن الدولي في جلسته الأخيرة، قبل أيام قليلة، طرح مسألة السلاح الكيميائي في سورية، وتالياً ضرورة التدقيق في هوية مستخدميه ومحاسبتهم دولياً على استخدام سلاح محرم دولياً. وكانت سورية قد تقدمت مبكراً وبعد يوم واحد، في رسالة مزدوجة إلى الأمين العام للأمم المتحدة وإلى مجلس الأمن الدولي، حول حادثة خان العسل (منطقة حلب) التي استخدم فيها الإرهابيون والعصابات المسلحة قذيفة مزودة برأس كيميائي يحوي غاز السارين، وذهب ضحيتها العشرات من الضحايا والمصابين.

مجلس الأمن الدولي واللجنة الدولية المستقلة المختصة التي قبلت الطلب الرسمي السوري، تباطأت في التعاطي العملي معه طوال الشهور الماضية، إلى أن تكررت عمليات استخدام غاز السارين في العديد من المناطق المحررة، والتي كانت خاضعة للمجموعات والعصابات الإرهابية، وآخرها في مدينة بانياس، واكتشاف 271 برميلاً كيميائياً تكفي لتدمير المدينة. كذلك في مناطق الغوطة الشرقية التي استُعيدت السيطرة عليها (منطقة جوبر) التي اكتشف فيها براميل تحول أسلحة كيميائية، كذلك إلقاء السلطات التركية القبض على 12 عنصراً من (جبهة النصرة) وبحوزتهم كيلوغرامات من غاز السارين، والتكتم على التحقيق معهم، رغم المطالبة السورية والدولية بذلك. فضلاً عن إطلاق قذائف قبل أيام قليلة، من منطقة العب في دوما باتجاه بلدة جوبر، الأمر الذي تطلب تعاملاً جدياً للغاية من جانب الهيئات الدولية المختصة والرد على الطلبات الرسمية السورية العديدة، إثر اكتشاف مخابئ وحالات استخدام مشابهة.

ورغم رفض الحكومة السورية اقتراحاً تقدم به عدد من أعضاء مجلس الأمن الدولي واللجنة الدولية الخاصة المستقلة، ينص على تفتيش ومسح دولي تقوم به هذه اللجنة، وما تمثله بوصفه يمس مناطق لم تتعرض لاستخدام السلاح الكيميائي، وتالياً المس بسيادة سورية واستقلالها.. وتالياً إدراج المناطق التي تعرضت لهذا السلاح بوصفها جزءاً من الحالة العامة السورية، أي وضع الجناة والضحايا في سلة واحدة من جهة، والخشية من تكرار تجربة العراق وأسلحة الدمار الشامل العراقية، مبرراً لحملات تفتيش واتهام ساعدت محلياً في غزو العراق واحتلاله عام .2003. التي ثبت (لاحقاً) بطلانها، واعتذر عنها، بعد فوات الأوان، الرئيس بوش الابن ووزير خارجيته آنذاك كولن باول، اللذان حمّلا وكالة الاستخبارات الأمريكية جريمة التضليل والخداع.

أما في الحالة السورية، فالمسألة شديدة الوضوح، ومحددة تماماً، وتمس مناطق معينة أيضاً، والأغرب أن هذه المناطق محاطة بقرى وبلدات لا تزال حتى تاريخه تحت سيطرة العصابات المسلحة، فضلاً عن أن وسائل استخدام هذا السلاح المحرم دولياً تتم بطريقة بدائية لعصابات، ويدلل على أن مستخدميه لا يملكون بعد تقنية دولة أو جيش نظامي محترف.

وفي الوقت الذي تباطأت فيه هذه المؤسسات الدولية المختصة في الرد على الطلبات السورية العديدة، فإن كشف مناطق تحوي أسلحة كيميائية من جهة، وإطلاقها من مناطق العصابات من جهة ثانية وتكرارها في الأسابيع الماضية، تؤكد طبيعة مستخدميها وأهدافهم أيضاً، فلا يمكن لعاقل أن يتهم الجيش السوري باستخدام السلاح الكيميائي، ولجنة التقصي الدولية قابعة على بعد كيلومترات قليلة عن الموقع المزعوم.

إذ جاءت حادثة جوبر قبل أيام قليلة، رداً على الإنجازات السورية في محاربة هذه المجموعات والعصابات المسلحة، في سياق عملية (درع المدينة) التي ينفذها بنجاح الجيش السوري، والتي تعد الأضخم منذ بدء الأزمة في سورية في آذار عام 2011. وتشير المعلومات والعديد من المصادر إلى اتهام ما يسمى بـ(لواء الإسلام) في دوما بإطلاق هذه القذائف على المناطق المحررة في جوبر. جددت على أثرها سورية ومندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة الطلب بإجراء تحقيق دولي حول هذه الحادثة، مضيفة إياها إلى حوادث سابقة، وإلى وثائق تثبت امتلاك هذه العصابات الإرهابية السلاح الكيميائي في المناطق التي جرى إعادة بسط سلطة الدولة عليها.

وتزامن هذا الطلب الرسمي السوري القديم- الجديد مع أدلة ووثائق من الأقمار الفضائية الروسية، قدمت إلى جلسة مجلس الأمن الدولي الأخيرة، تحدد مناطق إطلاق هذه الصواريخ الكيميائية، كذلك المناطق التي تضررت منها، الأمر الذي اضطر الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الغربية، إلى سحب مشروع إدانة سورية، والاضطرار إلى الموافقة على إرسال مفتشين دوليين في نهاية الأسبوع الماضي، يترأسهم أكي سيلستروم (سويدي الجنسية مختص بالأسلحة الكيميائية، ومن مواليد عام 1948) إلى مناطق حددتها سورية، وطلبت التحقيق في نوعيتها البدائية، والجهة المسؤولة عنها، وتالياً محاسبتها ومقاضاتها قانونياً حول استخدامها أسلحة محرمة.

وجاء هذا التنسيق الروسي – السوري وما يمثله، رداً على تقرير وكالة (رويترز)، التي أعلنت تقييماً مبدئياً وأولياً (لاحظ مبدئياً وأولياً)، يتضمن تقارير لوكالة الاستخبارات الأمريكية (التي ضللت الرئيس بوش ووزير خارجيته باول في الأزمة العراقية)، بأن القوات السورية استخدمت الأسلحة الكيميائية في إحدى مناطق الغوطة الشرقية.

وتزداد الأمور غرابة عند تقديم سورية رسائل رسمية عديدة تطالب فيها بالتحقيق في حوادث موثقة، وتؤكد هوية مستخدميها، مقابل اكتفاء العصابات الإرهابية بالحديث عن حوادث متنوعة استخدم فيها هذا السلاح، دون أي توثيق أو تأكيد حول هوية مستخدميها، بل الاكتفاء باتهام سورية باستخدام هذا السلاح!

نشير هنا إلى أنه إلى جانب الوثائق والأدلة المقدمة من السورية إلى مجلس الأمن الدولي، وأهميتها وحساسيتها، فإنه لابد من الإشارة إلى مقابلات الرئيس بشار الأسد التلفزيونية العديدة، التي فنّد فيها هذه الاتهامات، مشيراً إلى أنه لا يمكن استخدام الدولة لهذا السلاح بتقنياتها العالية، التي ستسبب وقوع ضحايا بالآلاف ومناطق منكوبة، وليس عشرات الضحايا نتيجة استخدام أسلحة كيميائية بدائية.. كذلك لابد من الإشارة أيضاً إلى تصريحات وزير الإعلام السوري عمران الزعبي الذي أكد (أن سورية لم ولن تستخدم هذا السلاح، في حال امتلكته)، وأن الخشية تتلخص في استخدامه إما في المناطق التي استعادت الدولة السلطة فيها، أو في جوارها، وتطلق من مناطق لاتزال حتى تاريخه خارج سيطرة الدولة.

ويبقى السؤال الأهم: لماذا تباطأت الهيئات الدولية المعنية بالتحقيق في هذه الحوادث؟ ولماذا وافقت عليها مؤخراً، بعد اجتماعات وزراء خارجية الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وإشارتهم إلى الخشية من تكرار استخدام هذا السلاح الفتاك وتبعاته واحتمالات وقوعه في يد المجموعات المسلحة الإرهابية.

كذلك لابد من التذكير بتصريح كارلادي بونتي، عضوة اللجنة الدولية المختصة والمستقلة حول (عدم وجود أدلة حول استخدام سورية لهذا السلاح، وأن حادثة خان العسل وفقاً للتقارير الموثقة، تشير بوضوح إلى استخدام المجموعات والعصابات المسلحة له)، كذلك تقرير اللجنة الدولية المستقلة أكثر من مرة حول عدم وجود أدلة موثقة حول استخدام سورية لهذا السلاح المحرم دولياً.

أما الضجة الراهنة حول التدقيق والتفتيش وفق الطلب الرسمي الغربي، وإن لم ينجح في شمول سورية من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، فإنه حسب تقديرات المراقبين يهدف إلى إشغال سورية بقضايا (خطيرة ومحرمة وجرمية)، وتبديل الأوّليات في سياق معالجة الأزمة في سورية، عن طريق توجيه ضربة عسكرية أمريكية تستبق نتائج التحقيق الذي وافقت سورية رسمياً على إجرائه في الغوطة، وذلك للتغطية على إنجازات سورية المتتابعة والمتواصلة، وعلى تقهقر المجموعات والعصابات الإرهابية، في سياق تفاعلات الأزمة في سورية، وحرف النظر عن القضية الأهم المتمثلة في عودة السلطة السورية إلى العديد من المناطق، التي كانت خاضعة لهذه العصابات، ورداً على هزائمها الراهنة والمستقبلية، والتشويش أيضاً على عقد مؤتمر جنيف ،2 أو حرف توجهه الرئيس المتمثل في الحوار والحل السياسي.

العدد 1107 - 22/5/2024