«ضبّوا الشناتي» أسرار المكان وتجلياته لحظة الرحيل

بعد الشراكة في أعمال درامية كوميدية بين المخرج الليث حجو والكاتب ممدوح حمادة في  (ضيعة ضايعة) و(الخربة) في المواسم الدرامية الفائتة. تقدم هذه الشراكة من جديد عملاً درامياً جديداً  (الحقائب – ضبو الشناتي) والذي يجمع بين الواقعية والواقعية الساخرة، تلك الواقعية التي تحيل المشاهد إلى فضاءات جديدة من التأمل في الواقع المعيش على جميع الصعد الاقتصادية والاجتماعية في أيام الأزمة السورية ولحظاتها. اللافت في المسلسل  تلك القدرة الكبيرة التي يمتلكها مخرج العمل في  كشف تفاصيل الحياة اليومية التي تنطلق من دائرة المكان ذاته (البيت الدمشقي) وتتسع الدائرة لتشمل الحي إلى أن تصل المدينة، وشيئاً فشيئاً تصل إلى كل أرجاء البلاد. فما يحدث في بيت (أبو عماد) بسام كوسا قد يحدث في كل البيوت الدمشقية خصوصاً والسورية عموماً.

ورغم أن الكاميرا لا تخرج عن الكادر المحدد لها، لكن المتلقي يعيش تفاصيل الأمكنة كلها بكل وجع وقلق، ويتابع الأحداث في مجملها عبر توزيع الشخصيات في العمل. ويكشف المشاهد الاختلاف والرؤية المتصارعة بين الشخصيات من خلال ما يجري من أحداث فساهم في خلق فضاء حواري جريء يدخل في عمق الأحداث والتجاذبات الحوارية المختلفة. وينبني المسلسل على الحكاية المتكررة في كل حلقة وهي حكاية السفر والهروب من الواقع المؤلم، وفي نهاية كل حلقة يمهد المخرج للدخول في خيبة أمل جديدة تعيق حلم السفر، وتأتي هذه الإعاقات والعراقيل في مشهد كوميدي ساخر سوداوي  يحمل بين طياته الكثير من القراءة للواقع الاجتماعي أثناء الأزمة في سورية. إذ تروي الحكاية عن قصة العائلة الدمشقية التي تجد في الهجرة الحل النهائي للتخلص من أهوال الحرب، وهذه الهجرة تأتي اقتراحاً من أحد أبنائها، ثم تبدأ حلقات الإقناع لبقية أفراد العائلة بعد أن يقتنع الأب والأم، ويتجلى الصراع في ذروته بين البقاء والرحيل من عدة أوجه، فهناك الرومانسيون الذين يتمسكون بفكرة البقاء، وهناك أصحاب المصالح الاقتصادية،وهناك المتحمسون للرحيل.  وللجميع دوافعه وأسبابه، في نهاية المطاف يقتنع الجميع بالهجرة، بعضهم على مضض، وبعضهم عن قناعة. ولكن الأم تضع شرطاً، أنها لن ترحل إلا إذا هاجر الجميع معها، ولهذا يتجمع الكل من أبناء وبنات وأزواجهم في البيت الكبير الذي يفترض أن ترحل منه العائلة، ويضعون حقائبهم خلف الباب. ومن هنا  يصل مستوى الحوار إلى أعلى درجات الجرأة في طرح المسألة (الأزمة) من كافة أبعادها. فهناك المعارض الذي يعبر عن آرائه والتي فيها كثير من الرومانسية الحالمة، وهناك رجل الاقتصاد والمال. وهناك المتماهي مع السلطة، وهناك عدد من الشخصيات المختلفة التي تعبر عن اختلافات المجتمع السوري.

 لكن للمكان (البيت) أو البيت الأكبر (الوطن) سطوته وحضوره في أبعاد المشهد الدرامي رغم اللغة الكوميدية السوداوية الساخرة. فالحوار الذي يدور بين ضحى الدبس (أم عماد) وبسام كوسا (أبو عماد) في الحلقة العشرين وقبيل الرحيل المفترض وقبل المنغصات التي ستأتي فيما بعد، يشير إلى أهمية المكان وحضوره في العمل الدرامي عموماً وفي هذا المشهد خصوصاً، وقد يبدو الحوار في أول الأمر عادياً يبن سيدة البيت وارتباطها بالجدران والأمكنة الصغيرة في البيت، لكن الحوار يصل إلى ذروته حين تبدأ أم عماد حديثها مع الحيطان وحجارة البيت وتطلب منها أن تسامحها على تركها لها في مهب الحرب، رغم أن الحجارة كانت خير حامٍ للعائلة في أحلك الظروف، وحين يتدخل أبو عماد ويطلب منها أن تسرع وتترك حجارة البيت التي لاتسمع ولاترى، ويقارن في بقية الحوار بين حجارة البيت وحجارة الغربة التي ستحتاج إلى زمن طويل  لتكشف اللغة التي غالباً لن  تسمعها على الإطلاق. وهنا تظهر أهمية المكان وحضوره البهي في كل تفاصيل المشاهد. فيكشف المخرج دلالة المكان الوطن بأبعاده المختلفة وخصوصاً في تعلق الإنسان بتفاصيله وأشيائه الصغيرة.

العدد 1105 - 01/5/2024