من إسلام الخوف إلى إسلام الحب الصوفية.. بقية من أمل

ابتُلي الإسلام كغيره من سائر الأديان على مدى تاريخه بالأعداء من جهاته الست، وكان أشدُّ أعدائه وبالاً عليه هم (المتأسلمون) من داخله.

ذات حينٍ أيها السادة، رُزق الإسلام بفيلسوف عظيم هو ابن رشد، صاحب كتاب (التهافت)، وفي التاريخ عينه برز له خصمٌ هو الغزالي، الذي ردّ بكتاب (تهافت التهافت)! مأساة الإسلام التي لاتزال مستمرةً إلى اليوم، كانت بمكان إقامة كل من الرجلين، فالأول، كان يُقيمُ في الأندلس، أي على أطراف بلاد الإسلام، فيما الثاني كان يُقيمُ في بغداد، أي في مركز الإمبراطورية الإسلامية، فكان أن استفادت من علوم الأول كل أوربا، فيما لاتزال تعاني بلاد الإسلام من أفكار الثاني، فقد انكسر الجناح المتأمل في الإسلام مع عدم معرفة المسلمين بابن رشد، وانتصر للأسف الجانب الشرعي القانوني الشكلي مع الغزالي، ومع ابن تيمية فيما بعد ازداد الإسلام إيغالاً بالشكلانية المتزمتة التي كفرت كل من فارقها، أو اختلف معها، ثم ابتليت الأمة الإسلامية بعد ذلك بالاحتلال العثماني البغيض لزمنٍ طويل، وبعد ذلك، ابتلي الإسلام بالوهابية، فصار اليوم جثة ممددة بين يدي الإخوان المسلمين، وداعش وأخواتها، وصار الإسلام تكفيراً بتكفير وخوفاً بخوف..!

هل يعني ذلك الإحباط التام والناجز في الأمة الإسلامية؟ وهل بقي لهذه الأمة اليوم من مناص، أو فرصة، ليعود دين الله ورسوله، وبعد أن انسحل بين أيدي الجهلة الذين عادوا به إلى زمن الجاهلية..؟!!

الباحث حسين شاويش، يجد فرصة ليعود الإسلام دين الروح والقلب، دين الإيمان الشخصي، ولا المؤسساتي الشرعي الشكلاني، وذلك في (الإسلام عشقاً) كما يعنون كتابه الصادر حديثاً عن دار بعل في دمشق، ويقصد شاويش بـ(الإسلام عشقاً) الصوفية، التي هي الفناء بمحبة الله لدرجة الاتحاد به، لا طمعاً بنكاح حوريات، ولا لأجل متاجر ديني بغيض، بل لأجل المحبة الخالصة.

والصوفية ليست غريبة عن الإسلام، بل هي جوهره الروحي، كما أنها ليست غريبة عن الأديان كافة، لأن غاية الأديان كانت التقرب من هذا الكائن الكلي القدرة الذي هو الله جلّ جلاله، وذلك بعد تخليص هذه الصوفية من غبار الشعوذات التي لحقت بها عبر تاريخها، لأن التقرب من الله هو غاية المؤمن أياً كان دينه، بل وغاية الله ذاته (من تقرب مني شبراً، تقربت منه ذراعاً) كما يذكر الله في كتابه الكريم، ومن هنا قد تصير الصوفية ديناً عالمياً مادامت دين المحبة والقلوب، لا دين الخوف والطمع، ألم يقل ابن عربي أحد أركان هذه الصوفية ذات حين:

لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة

فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبان

وبيتٌ لأوثانٍ وكعبة طائف

وألواح توراة ومصحف قرآن

أدينُ بدين الحبّ أنى توجهت

ركائبه فالحبّ ديني وإيماني؟!

فالإيمان شان شخصي بحت يُنظم العلاقة بين العبد وربه، وهو يختلف عن التدين القطيعي الجماعي المؤسساتي، الذي في تفاصيله الإكراه الذي تمارسه المؤسسات الدينية على أعضائها والآخرين، بذلك الخطاب المقيت بين الترغيب والترهيب، يجعل منه دين الخوف المادي الصرف الذي لم يترك مكاناً أو قيمة للروح وحب القلوب الصافي الذي غايته وجه الله الباقي.

في هذه الدراسة الممتعة والماتعة، يتحدث الباحث مطولاً في تاريخ الدين الإسلامي، وحالات الكثير من المتصوفة، والركيزة الصوفية في الإسلام، و.. لماذا التصوف الآن؟

يرى الباحث، أن تطوّر الأديان تاريخياً يسيرُ باتجاه تخليها عن وظيفتها محدداً للانتماء الاجتماعي، أي باتجاه اعتبار الدين شأناً فردياً، لأنه عندما يصبح كذلك فعلاً، فإن الطوائف تفقد صفاتها الكارثية، وهو ما نُشاهده الآن في بعض البلدان الأوربية إلى حدٍّ كبير، وبهذا المعنى يبدو أن بلاد العرب والمسلمين تسيرُ باتجاهٍ معاكس للتاريخ..!

غير أن هذا الكتاب (الإسلام عشقاً) يُحاول أيضاً أن يبرهن أن الإسلام ليس استثناءً من هذه الحركة التاريخية،  فالتصوف الإسلامي الذي بدأ باكراً جداً، وطبع تديّن الشارع الإسلامي قروناً طوالاً، لم يكن في جوهره شيئاً آخر غير إعادة الاعتبار للممارسة الروحية على حساب الطقوس الشكلية، وللحب على حساب القانون – الشريعة، أي للباطن على حساب الظاهر، وهذا كله لا يمكن ممارسته بشكلٍ أنموذجي إن لم يكن فردياً، فالحب هو شأن القلب، أي شأن الفرد لا شأن المجموع، وكانت نتيجة انتشار التصوف كنزاً هائلاً من الأدب الصوفي في كل اللغات التي تتحدثها الشعوب الإسلامية من الهند، وحتى المغرب، ويكفي ذكر أسماء كالرومي والعطار وابن الفارض، لنعرف الثراء الخاص لذلك الأدب.

ذلك أنّ جوهر الدين هو حركة الروح في نزوعها إلى التواصل مع المقدس، والتصوف في النتيجة يحتوي في جوهره الجوهريَّ في الدين، في كل الأديان لا في دين الإسلام وحسب.

ومن هنا يؤكد الباحث على دارس التاريخ الإسلامي الاستنتاج أن تاريخ الإسلام الواقعي، هو تاريخ التصوف أكثر من كونه تاريخ الشريعة، هذا إذا ما اعتمدنا المعيار الكمي على الأقل. والمتصوفة بنوعيهم، الصوفية الخالصة المتنسكة التي اعتزل أهلها الحياة وهاموا بحب من يهوون، والصوفية الواقعية، التي كان أهلها أعمدة الحرف الذين سادوا المشهد الديني في العالم الإسلامي، وكانوا جنباً إلى جنب مع الفقهاء.

في الختام يرى الكاتب حسين شاويش، أن الخراب الكبير الذي لحق بالتصوف – الذي هو شأن فردي – أصابه من مأسسته، ذلك أن هذه المأسسة لم تؤدّ إلا إلى تشويه هذه الصفة فيه، وذلك يُماثل ما قامت به بعض الحركات الدينية كالإخوانية والوهابية، التي كانت تزعم الإصلاح، وإذ بها تصير مؤسسات لخراب الدين بشقيه الشرعي والصوفي، ومن هنا كان هذا الخراب واليباس العام الذي أصاب جسد الأمة الإسلامية، فلم يبقَ للروح ما يهزّها.

العدد 1105 - 01/5/2024