التشبيه بين العقل والعاطفة

يميل الشعر الحديث إلى التجاوز عن التشبيه إلى الرمز، لأن التشبيه ليس في الواقع، سوى قياس غير مباشر، فهو من هذا القبيل أيسر اسلوب من أساليب الوعي وأكثرها وضوحاً وأدناها توغلاً في النفس، لأنه يقوم على المقابلة والاستنساخ ويؤدي إلى المعرفة بالأدلة والبرهان، فعندما يقول امرئ القيس:

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ..|..  إذا هي نصته ولا بمعطل

نرى أن تشبيه عنق حبيبته بعنق الغزال لبث في حدود الوعي التام، فهو يضع ظاهرة ليقابلها بأخرى مميزاً التشابه فيما بينهما بأمر من الأمور، وهذا التميز يتم في حدود الفعل المحدق بالأشياء من خلال الحواس وحدودها المقررة الحاسمة وأدوات التشبيه، هي في معظمها، أدوات وعي وتعقل، أدوات وضوح وتقرير، تقرب الأشياء بعضها إلى البعض الآخر، لكنها لا توجد بينها ولا تدمجها، فتغدو كأنها شيء واحد، فامرؤ القيس، عندما يقول (وجيد كجيد الريم) يوعز بوساطة الكاف أن جيد الحبيبة يقترب شكله إلى جيد الريم، لكنه ليس جيد الريم بالذات، وقد كانت الكاف أداة تقريب بين الظاهرتين، وهي في الآن ذاته، أداة فصل واضح بين ذاتيها، العقل في هذا التشبيه ينظر إلى الأشياء بوضوح ولا يبلغ فيها إلى الذهول والحلولية، ولهذا نقول إن أداة التشبيه تمثل سلطة العقل الذي يأبى أن يوحد الأشياء التي لا وحده مادية علمية حسية بينهما.

وعندما يقول البحتري:

وكأن الجرماز من عدم ..|.. الأنس وإخلاله بنية رمس..

فهو لا يوحد بين الجرماز وبنية الرمس، بل يقابل بينهما ويرى أنهما يتفقان بعدم الأنس والإخلال بالرغم من أن أحدهما يختلف عن الآخر، وقد جاءت لفظة (كان) كما جاءت الكاف قبلاً، وسيلة لوصل الظاهرتين بنقطة من النقاط وفصلها فصلاً تاماً في الماهية والجوهر، وهذه اللفظة هي رمز للتعقل الذي يمنع الشاعر من الاستغراق في تحسس الأشياء والانذهال وغيرها، ليبلغ من عمق الانفعال والرؤيا ما يجعله يوحد الجزء بالكل، متخطياً حدود التقرير العقلي إلى الحدس النفسي الذي يقبض على وحدة الأشياء في عالم الشعور، وقبل أن تنفصم وتتفرع وتستقل بعضها عن بعض في عالم الوضوح.

ولعل هذا يفسر لنا إصرار (كلوديل وفاليري) على إسقاط أدوات التشبيه من شعرهماإسقاطاً تاماً، لقد كانا يهدفان إلى التعبير عن ظلمة النفس البكر، أو عن عدمها كما يقول (مالرمي)، ورأيا أن أدوات التشبيه، هي أدوات فكر ووعي واستنتاج تصلح للتعبير عن العالم الخارجي، عالم المنطق والعقل والعلم، ولا تصلح للتعبير عن الرؤيا النفسية التي تحيا في اللغة وحلولية بعض ببعض، حيث تمحي الحدود بين الروح والمادة، والداخل والخارج، كما تمحي المحدود بين السماء والأرض في الملحمة، فالكاف والكان وما أشبه هي وسيلة من وسائل التميز الخارجي ونتيجة لرغبة الإنسان في تحديد الأشياء وفصلها عن بعضها فصلاً تاماً، أما الرؤية الشعرية، فهي نوع من الظلال النفسية التي لا حدود لها، إنها الرؤيا التي تنفذ فيها النفس إلى وحدة الوجود، وبقدر ما يتوصل الشاعر بأدوات الشتبيه بقدر ذلك يظهر أنه لما يبلغ حرم الرؤيا ولم تتجلّ له الأشياء تجلياً في الداخل، فعين بصره لم تنطفئ لتضيء عن نفسه، بل إن كلاً منهما ثبت نصف مطفأة، نصف مغمضة، فتحة توازن بين الوعي واللاوعي، وهكذا فإن التشبيه يدل على أن النفس ما رحت تصدر إلى الخارج لتفهم الأشياء أكثر ما تعانيها، إنه نوع من الإدراك بالمقابلة والتقرير والتقاط الجزء عبر الكل، وأشد التشابه عقماً شعرياً ما كان طرفاه ماديين لأنهما يدلان على أن النفس جملت توازن الأشياء وتلتفت إليها التفات العالم إلى التجربة الخارجية عنه، وكنا قد رأينا، قبلاً أن الشعر تعبير عن انفعال النفس، فيما هو يعاني أو فيما يكون شيئاً واحداً هو والنفس بسيط عليها ويضمرها حتى تذهل غيره، غير مميزة بين ذاتها وبينه، وفي تلك المرحلة تعاني النفس الشيء ولا تفكر به وتتخلى عن يقينها الخاص لتتحد بيقين الانفعال بكل ما فيه من غلو يجعلها تؤمن بما يخالف عادة الفكر الواعي والمنطق اللامبالي، أما في التشبيه فإن الانفعال ينفصل ويستقل عن النفس، وبعد أن كانت تحت وطأة الذهول، إذ بها تحرر منه وتثبته أمامها لتفهمه، وفي تلك المرحلة يتحول الانفعال إلى أفكار واضحة لكنها ميتة، بعد أن كان عواطف غامضة لكنها حية، فعندما  يقول البحتري أيضاً:

قصور كالكواكب لامعات ..|.. يكون يضئن للساري الظلاما

أو قوله:

كالسيف في أخذامه والغيث في ..|.. أرهامه، والليث في إقدامه

ترى أن الشعر لديه، قد طفا على زبد الوعي والإدراك، وقد سيطرت فيه حدة البصر أي حدقة الفهم والتقرير على حدقة الرؤيا الداخلية، فأطفأتها، وحولت الانفعال إلى معادلة فكرية، لا يشخص فيها أي ظل من ظلال النفس، فهي تقرير لاحظ درجات الوعي، إلا أن طبيعة التشبيه تلبث مرتبطة بنفسية الشاعر وثقافته وقدره على الإبداع، فالتشبيه للشاعر كالموضوع هو الذي يمنحه قيمته في كيفية إقباله عليه وتوسله به، ولأن حدقة التشبيه كانت حدقة وضوح ومقابلة، فإن الشاعر قد يحولها إلى حدقة رؤيا خالصة أو إلى حدقة مموهة الأضواء إذا نظر إليها من خلال الذهول وليس من خلال الإدراك، فعندما يقول بشار بن برد:

وغادة سوداء لماعة ..|.. كالماء في لين وفي طيب

أو عندما يقول:

وحديث كأنه قطع الروض

وفيه الصفراء والحمراء

وكأن رجع حديثها

قطع الرياض كُسين زهرا

عندما نقبل على مثل تلك الأبيات ندرك أن معادلة التشبيه تغيرت، وأنه جعل يلتفت إلى الداخل بقدر ما يلتفت إلى الخارج، وندرك أيضاً أن أضواء الوضوح التي كانت تسطع في التشابه الأولي حتى التبذل جعلت، الآن تتموه وتكتسي قليلاً أو كثيراً من الذهول المتولد من ابتعاد حدسياً شعورياً، فالعين المجردة تعجز عن التقاط شبه بين الغادة الحسناء والماء لأن وجه الشبه ليس مبذولاً أو دنياً ولا يمكن أن يتفق للنفس إلا إذا أدركت روح الأشياء ونفذت في إطارها الخارجي المادي، والفرق بين هذا التشبيه وتشبيه (امرئ القيس) إن هذا الأخير يلتفظ وجه الشبه في تأثير الأشياء عبر النفس، بدلاً من أن يلتقط وجه الشبه في الشكل الخارجي عبر البصر، ورغم أنه ما برح يقوم على المقابلة، فإن الوعي لم يسيطر فيه إلا على الشكل بينما ليثبت روح المعنى تعمده على يقين اللحظة النفسية التي تجمع في حدسها المبدع الأطراف المتباعدة في ظاهرها والمتقاربة في جوهرها، وفي مثل هذا النوع من التشبيه فإن الوعي لا يرسم إلا خطاً خارجياً يظهر بوضوح، لكنه لا يقوي على تبديل الذهول النفسي، وهذا التشبيه هو معبر يصل بين برزخ الحلم، وأرض المادة والواقع.

 

أكاديمي وكاتب عراقي

العدد 1105 - 01/5/2024