السلام والسلاح والعنف.. مسيرة السوريين

ينص ميثاق اليونسكو الذي تقرر منذ أكثر من نصف قرن على ما يلي: (بما أن الحرب تبدأ في أذهان البشر، فإن علينا أن نبني متاريس السلام في أذهان البشر أيضاً).

لكن ما هي متاريس السلام التي علينا أن نبنيها وسط كل هذا السلاح المترامي بين أيدي الناس؟ كيف يمكن لسلاح وجد تحت عناوين مختلفة، منها حماية الوطن، حماية الوجود، الخوف، العنجهية والقوة والضعف.. أن يتحوّل إلى مكان واحد وبيد واحدة رسمية وطنية؟! هل كل ما يجري لا يعتبر كافياً لقرار نزع السلاح؟!

هنالك قصص كثيرة تحكي واقعاً مؤلماً عن السلاح الذي توفّر بشكل مخيف بين الناس ليتحوّل الى أداة لتصفية المشاكل الصغيرة، فتواجد السلاح بين أيدي الناس ويوصلهم لمزيد من الجرائم والقتل ينبهنا الى ضرورة أن نمر بثقافة اللاعنف والسلام وبناء متاريسها بأيدينا وبأقرب وقت ممكن، فحكايا الموت فاحت في كل أنحاء سورية..

تقول عفراء عن حادثة وقعت بمكان سكنها بإحدى ضواحي دمشق: منذ أيام ضرب جارنا زوجته التي هربت لبيت أهلها الجيران أيضاً، وذهب الرجل بكل بطولة ليعيدها (من شعرها) فتصدى له وتحداه أخوها (الوحيد)، وتدخل الجيران لإحلال السلام في هذه الأسرة الصغيرة..، لكن بعد جهود حثيثة انتهت عملية السلام بأن فجّر الزوج قنبلة يدوية حصل عليها من عمله في (الدفاع الوطني) متسبباً بمقتله ومقتل الأخ، وقطع رجل طفلة هي ابنة القاتل المقتول، إضافة لإصابة بعض المفاوضين والمارة، (فالمشاورات) كانت تجري في الشارع..

وفي حادثة أخرى تصطدم سيارة بإحدى السيارات المركونة في الشارع ليخرج صاحبها ملاحقاً الشاب، وعندما لم يستطع بلوغه نادى على أحد الحواجز القريبة: (إنه إرهابي) فما كان منهم إلا أن أردوه قتيلاً وبلمح البصر وأمام جيرانه..

وفي نزاع بين شابين على موقف للسيارة نشب عراك أدى إلى تلاسن وتشابك بالأيدي، ومن ثمّ أخرجوا أسلحتهم وبدؤوا بإخافة بعضهم بإطلاق الرصاص في الهواء، إلى أن حدثت معجزة أوقفت كل هذا، وعاد كل منهم إلى مكانه بعد أن كاد الموت أن يكون نصيب أحدهما..

أما وجود السلاح بين أيدي الشباب فهو جزء من شخصية قد تدفع بهم الى المزيد من الدمار، فعلم النفس يحلّل بعضاً من هذه النزعة والرغبة في حمل السلاح ومن ثم القتل واستسهاله كحل للأمور مهما كانت بسيطة، فتقول مرسيليا حسن في بحثها عن الانتحار والعنف: (يأمل الشباب التهرب من حتمية خصيهم الرمزي، عن طريق حملهم للسلاح، فالسّلاح كرمز قضيبي، يمتعهم بنرجسيّة لا حدود لها، بحيث يصبح السّلاح رمزاً قضيبياً، يكرّس الأمل لديهم، في استعادة الشيء بدل الحداد عليه، فلذّة الشّباب بإطلاق النّار. والاستمتاع لصوت الانفجارات، وقنص الرّجال والنّساء عن بعد، يضاعف من سلطتهم التي تضخمها مخاوف الآخرين وخضوعهم. كما أنّه في حال الاستغراق بالمخدرات مثلاً كتحايل على الموضوع من خلال وضع الشاب جسمه كوسيط، بينه وبين الآخر الكبير. ليكون السّلاح بديل القضيب، مروراً بالمخدرات، من كون المخدّرات منبع متعة لا توصف، يكون الدّفع لمواقع الموت، وجعل الجسد أرض معركته المميّز ليتصارع الألم واللذة، في حين الحوار الذاتي منقطع مع الآخر الكبير، والانخراط الاجتماعي ليختصر نفسه فيما يتسنى للشخص، أن يشعر أن داخل جسمه انحراف في السّلوك الذي قد يكون بنيويّاً).

لذلك فإن بناء السلام لن يكون أمراً سهلاً، فهو سيكون بمثابة ثورة تبدأ من الأسرة والمناهج الدراسية وطرائق التعليم والاعتراف بالمواطن وحقوقه واحترامه كانسان أولاً، وكجزء من المجتمع ثانياً، وإعلان المساواة وعدم التمييز بين الجميع من حيث العمر أو الجنس أو الوضع المادي، كل ذلك جزء من عملية السلام التي علينا العمل لأجلها، والسعي نحو إحقاقها، وبالتوازي مع كل هذا يجب أن تعمل على إعادة النظر في المعتقدات الثابتة، كالعادات والتقاليد والدين، وتغيير القوانين بما يتناسب مع التطور والتغيير والمساواة وعدم التمييز، وهذا كلّه سيكون مخرجاً للبحث عن ثقافة أخرى تختلف عن ثقافة العنف والسلاح الناجمتين عن تراكمات وعفن كل ما سبق.

وهنالك محاولات عديدة لبناء السلام في سورية من سوريين داخل سورية وخارجها، ففي دعوة على إحدى مواقع التواصل الاجتماعي، دعوة لمسيرة السلام تؤكد أن لا حل بديل عن السلام (إما السلام أو تتركوا سورية بيد جميع أشرار العالم)، ووضعوا مبادئ لهذه المسيرة التي تدعو كل السوريين للمشاركة فيها، وهي بالبداية طرد جميع المقاتلين الأجانب من سورية، ووقف الاقتتال الداخلي،ومن ثم جلوس السوريين إلى طاولة المفاوضات.

 ويقول النداء: (يا أبناء وطننا، يا من تؤلمنا آلامهم، وتكوينا عذاباتهم، إننا لا ندعوكم إلى القتال والموت حتى تترددوا، إنما ندعوكم إلى السلام والحياة. مشاركتكم في (مسيرة السلام قد تحفظ حياتكم وحياة من تحبون، شاركوا في إغلاق أبواب الموت وفتح باب الحياة).

فأن تكون شريكاً في مسيرة السلام، يعني أن تصغي بانتباه أكثر مما تتكلم، فمن آلام الناس ومعاناتهم، ومن حسابات القوى ومخاوفها، تجد نقاط التقاء وقواسم مشتركة، فتوكل إلى الباحثين والخبراء البناء عليها.

أن تكون شريكاً في مسيرة السلام، يعني أن تكون وسيطاً إنسانياً- وطنياً، تسهّل على الناس التلاقي على المبادئ، وتترك أمور التفاصيل للخبراء.

أن تكون شريكاً في مسيرة السلام يعني أن تقف على مسافة واحدة من جميع الضحايا، وجميع أمراء الحرب، الرسميين منهم والشعبيين، وأن تقبل الجلوس حتى مع المجرمين.

أن تكون شريكاً في مسيرة السلام، يعني أن تكون إنساناً لا يمارس القتل، ولا يدعو إليه، ولا يبرره، ولا يسكت عنه، ولا ينشر صور القتلى، ولا يهزأ بروح أيٍّ كان، ولا يقبل بالعنف أسلوباً لتحقيق أي هدف. ويرأف بحال القاتل والقتيل بوصفهما ضحايا.

مسيرة السلام، لإعادة الأمل بالحياة ل (المعترين) السوريين. يا معتري سورية نحن أخوة في (التعتير)، فتعالوا نفعل شيئاً معاً.

هكذا تقول الدعوة، وهكذا النداء، وهنالك الكثير من السوريين ممن أبدوا الرغبة في المشاركة بهذه المسيرة ووضع المبادئ معاً للوصول إلى حلول علّها تكون طريقاً للسلام.

وفي الداخل السوري هنالك محاولات تتعلق ببناء السلام في مراكز الإيواء ومدارس أبناء الشهداء، ومع كل من عانى من الاقتتال الدائر في سورية من الأطفال واليافعين على وجه الخصوص، وذلك تحت عنوان مشروع (بناء جسور السلام) ويهدف البرنامج إلى: دعم نفسي للأطفال والمراهقين من خلال إخصائيين نفسيين واجتماعيين مدربين على حالات الأطفال في الأزمات والحروب، والتدريب على التواصل الجيد (الفعال)، وحل النزاعات بين الأطراف المختلفة، والعمل على تفريغ الانفعالات السالبة للمشاركين من خلال تنمية مقدراتهم على التعبير، والعمل على تنمية المواهب (اشغال يدوية – كتابة – تمثيل) وتنمية الخيال والإدراك والملاحظة لدى الأطفال من خلال اللعب والأنشطة، وتنمية المقدرة لدى الطفل على التعبير عن نفسه بجمل واضحة، والتعريف بحقوق الطفل من خلال اللعب والرسم والتمثيل، والعمل يعتمد على الأفلام ومسرح الدمى والظل ومناقشة الحكايا والعمل على حث الطفل على التفكير بحلول وتنفيذها من خلال الدمى التي سيصنعها بنفسه من الأشياء البسيطة المتواجدة بين يديه كأوراق الجرائد وبقايا الألبسة، واستخدام كل ما يعتبر من النفايات في صنع ألعاب تستطيع أن تعبّر عن مشاعر الطفل أو المراهق، بناتاً وصبياناً، لزرع أفكار السلام انطلاقاً من المساواة وفهم الآخر والتعرف اليه.

مشاريع عديدة يبتكرها شبابنا ليصنعوا السلام بصيغة تناسب الجميع لكن على مبادئ ثابتة تتعلق بالمساواة والمواطنة وحقوق الانسان.

العدد 1107 - 22/5/2024