الانفصام القانوني.. (1)

لم توجد التقسيمات الإدارية في العالم والتي تتشكل منها الدولة هكذا بمحض المصادفة، بل جاءت بعد دراسة متأنية وعميقة ومفصلة لكل قسم منها، وانتهت إلى أنها جميعها ترتبط فيما بينها ارتباطاً وثيقاً ولا يمكن أن تستقل مجموعة عن الأخرى استقلالاً كاملاً .

وبالتالي فالسلطة التنفيذية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسلطة القضائية، وهذه الأخيرة تستمد شرعيتها من السلطة التشريعية، التي لا يمكنها أن تُشرًع قانوناً  أياً كان دون العودة إلى المجتمع والشعب واحتياجاته وضرورات تنظيم أموره، والأهم من هذا وذاك هو كيفية التطبيق العملي لهذه السلطات على الواقع بموجب القوانين النافذة والمفعَلة عملياً لا المعطلة.

وهذه الأسس الجوهرية يقوم الباحثون بتقسيم الدوائر الإدارية والمؤسسات العامة والخاصة بشكل مدروس وموزون ومرتبط بعضه ببعض ارتباطاً لا استقلال فيه لإدارة عن أخرى، لينتهوا إلى قيام دولة قانون ذات مؤسسات فعالة ومنتجة.

لكن ماالذي يحصل في حال تعطلت الغاية من هذه التقسيمات، وانقسمت كل إدارة على نفسها معتبرة ذاتها بحكم الدائرة المستقلة عن الدوائر الأخرى؟

الذي يحصل هو بالضبط ما نعيشه الآن في هذا البلد على أرض الواقع بشكل يومي ودائم، وبات عفوياً لم نعد ندرك أنه خطأ شنيع وسيؤدي يوماً بعد يوم ،إلى نتائج سلبية كبيرة مستقبلاً.

فقانون الطوارئ يتعارض تماماً ومواد الدستور، كما تتعارض القوانين الاستثنائية الصادرة في ظله مع القوانين المشرًعة بشكل يتناسب وحاجات المجتمع ومصلحة الفرد وضمان حقوقه، لكن المعضلة تبدأ عندما تنتشر قوانين استثنائية وتصدر لتُطبق على النزاعات وفي أروقة محاكم تابعة لها بموجب إجراءات القوانين العادية التي صدرت خارج حالات قانون الطوارئ، أيضاً عندما تُطبق إجراءات مواد قانون الطوارئ المخالفة لكل ما يُسمى دستوراً وحقوق إنسان على قضايا ودعاوى تختلط فيها الإجراءات القانونية العادية بحالات الطوارئ، فلا تعود تميًز متى سيُطبق القانون ومتى لن يُطبق؟

ثم تأتيك الإعلانات المبوبة والإعلانات الطرقية وتصريحات الإعلام التي تخضع جميعها لإشراف وزارة الإعلام، تجعلك تشعر وكأنك تعيش في جو من سيادة القانون وفعاليته المطلقة وتحت جناحه، وتصطدم بعد ذلك بتدخل السلطة التنفيذية الواسع بعمل السلطة القضائية وتقليص دور ما يُسمى وزارة العدل على مهمة وحيدة هي تنفيذ أوامر السلطة التنفيذية لاغير، والتناقض بين تصريحاتها وأدائها مع تصريحات وأداء وزارة الإعلام وقنواتها الإعلامية ولافتاتها الطرقية، ويشعر المواطن وكأنه يود لو يجد الطريق المناسب ليوصل كل وزارة بأخرى ليتواصلوا ويتحدوا بمجلس وزارة حقيقي لا وهمي وصوري.

تتحفك مؤسسة الإعلان بإعلانات عن النظافة والبيئة وحمايتها وكيفية الحفاظ على جمال بلدك، لكن وزارة البيئة نفسها تبدو لا علاقة لها بالموضوع، ولا إجراءات جدية يمكن لها أن تتخذها لتلحقها بخطوات عملية لهذا الإعلان.

ثم تأتيك المؤسسة نفسها بإعلانات وإعلانات عن حق الطفل في التعليم، وحقه بوجوده بين أسرة سعيدة وتربيته تربية صالحة، إلا أن المهزلة هي أنك وأنت تقرأ الإعلان تصطدم بمئات الأطفال المشردين وأطفال الشوارع والذين بلا مأوى وبلا تعليم وبلا حياة أصلاً ولا همّ لوزارة الشؤون الاجتماعية بهذا وكأن الأمر لا يعنيها..

أما القوانين وتفعيلها ومسؤولية السلطة القضائية عن ذلك ونهوضها بمهمتها تجاه تطبيق العدل والعدالة وإحلال القانون، فحدًث ولا حرج عن الانفصامات القضائية والقانونية التي تحصل كل ساعة وبشكل دائم ويومي، بات غير إرادي بالنسبة لمن يقوم بتطبيقها، وهذا ما سنتحدث عنه في الجزء الثاني من المقالة.

«يتبع»

العدد 1107 - 22/5/2024