لوثة العنصرية بين فيلمي «قلب الأسد» الفنلندي و«الشرف» البريطاني

لئن وافقت قسمة العقول منذ بدء التكوين القبول والرضى فإن توزيع الأرزاق ترافق دوما مع الجشع والطمع، مما استنهض العنف والحقد المستتر بأغلفة الشعارات البراقة. ومع تكاثف أعباء الكراهية عمت حملات التطهير العرقي والديني عبر القرون. ولازالت شعارات النازية الألمانية التي أذكت جنون الكراهية إبان الحرب العالمية الثانية، باقية حتى الآن مستبطنة العداء القومي المتصاعد في المجتمعات الأوربية الحديثة نحو المهاجرين واللاجئين. الأمر الذي يشكل تحدياً لمفاهيم الديمقراطية والعدالة والحرية التي قامت عليها تلك المجتمعات. مع أن تدفق المهاجرين المتزايد نتيجة طبيعية لحروب الإبادة الجماعية إبان فترات الاستعمار الكولونيالي بشكليه التقليدي والمستنسخ إيديولوجيا /العولمة.

في السينما الأوربية يمكن تلخيص هذه الأزمة الأخلاقية بظاهرتين، الأولى ترتبط بالعداء المتنامي تجاه الإسلاميين الأصوليين وخاصة الأقليات التركية والباكستانية في ألمانيا وإنكلترا، والثانية تتعلق بدافعي الضرائب في البلدان الأوربية، والذين تقتطع رواتبهم لدعم الإعانة الاجتماعية للمهاجرين واللاجئين.

تدخلنا المشاهد الأولى لفيلم الشرف Honour) ) مباشرة في قلب العدائية القومية البريطانية، والتي يمارسها المتسكعون المتبطلون تجاه اللاجئين المسلمين، حيث يشكل الزي تحدياً استفزازياً ملائماً لافتعال مشكلة واتخاذها ذريعة لتفريغ الاحتقان العنصري. لذلك يغدو تطابق نهاية الفيلم مع بدايته مناسباً لفكرة الدوران في الحلقة المفرغة، والتي هي مأزق الحضارة الغربية.

تدور فكرة فيلم الشرف حول شابة باكستانية تدعى منى، تقع في حب شاب مسلم من إقليم البنجاب. وتأتي الصدمة من عقدة الطبقية المستحكمة في شبه القارة الهندية، والتي تتناسل من الآباء إلى الأبناء وصولا إلى المهجر. فنرى أم منى وهي تخيط كفنا لابنتها الوحيدة، قبل أن تكلف شقيقها الشرطي قاسم بخنقها ثم دفنها في صندوق الملابس وتمويه القتل ببطولية جرائم الشرف. ويتم التركيز من خلال تعاقب المشاهد على مآل التعايش السلمي بين الأقوام والأديان، والذي هو أساس ازدهار الثقافات الإنسانية وارتقائها. فإصرار كل طرف على الاحتفاظ بأسواره العازلة، يمهد للاستنفار الدائم انتظارا لفرصة الانفجار. ومحاولات منى للاندماج في المجتمع البريطاني يقابلها تشدد مفرط من جانب الأم، بالمقابل يبطن سلوك قاسم ازدواجية مخيفة، تتفق مع أحلام المهاجرين الباكستانيين في تغليب اللون الأسمر على المملكة البريطانية وتحويل البيض إلى أقلية. ولعل الخسة الأكبر في هذا النموذج السينمائي تتمحور حول المصالح المتبادلة بين الفريقين. فالأم تستعين بإمام الجامع لتوظف قاتلاً بريطانياً عنصرياً لاستدراج ابنتها مقابل 8000 جنيه، وتسوغ الأمر بضبط التوازن وتقديم المنفعة المتبادلة للشعبين الباكستاني والبريطاني. والمفارقة أن القاتل يتنحى عن تنفيذ مهمته ويسلم المال لمنى طالبا منها الهروب، بينما يستخدم عادل وظيفته لتصفية القاتل الخائن!

يبدأ الفيلم الفنلنديHeart of Lion) ) قلب الأسد وينتهي بنفس المشهد المتضمن ازالة الوشم النازي قسرا عن صدر نافخ الزجاج تبيو. وتدور قصته حول حاجة الرجل الماسة إلى الاستقرار العائلي، ومدى استعداده للتخلي عن نوازعه الأنانية التي شبَّ عليها. ومن خلال تتبع التحدي الأكبر للنازي تبيو وشقيقه هاري العسكري، نتعرف على دهاليز المجتمع المغلق الذي يهاجم أفراده الملونين واللاجئين حيثما صادفوهم، بذريعة عدم دفع الضرائب.

تبنى تيمة الفيلم حول المودة التي تنشأ بين ابن النادلة الشقراء رمضاني الأسمر والنازي تبيو، وتتدرج من صدمة الرفض والعدائية وصولاً إلى الاحتواء الكلي للطفل والتخلي عن شعار (فنلندا البيضاء). والمفارقة أن تبيو يعترف للنادلة منذ البداية بغبائه المتوارث، الذي يعوضه بمهارة يدوية فائقة. وهنا يبدو الذكاء عاملاً معيقاً للاندماج بين الثقافات، فتبيو يتقبل رمضاني ويتبناه كإبنٍ له متجاوزاً الفصل العنصري الممارس بحق الملونين. فغباؤه وعناده ينجحان حيث يفشل ذكاء المتعلمين. وعفوية مواقفه إزاء تربية وتأهيل رمضاني تبدو أكثر نجاحا من انفعالات الآباء العنصريين، وصرامته مع شقيقه هاري النازي تبدو متلائمة مع أبوته الجديدة. لذا ينهي تبيو نازيته بقرار شجاع، فيصطحب رمضاني معه إلى ملعب النازيين معلنا أبوته للطفل، بينما يقدم هاري على الانتحار لعجزه عن موافقة مجتمع مختلط الأعراق والنزعات. فوالد رمضاني الزنجي ينجح في كسب هوية المواطنة لينتظم في السلك العسكري، وينضم إلى دافعي الضرائب، بينما يفشل هاري في الترقي ويطرد من الجيش بسبب غبائه، ليعيش على الإعانة الاجتماعية التي تقل عن قيمة الضرائب التي يدفعها والد رمضاني!

ينقل تبيو إلى رمضاني عادات فنلندا، ويتعلم معه الصلاة وفق الطريقة الإسلامية، ويتفق الاثنان على ضرورة التخلي عن منهج الكراهية والعنف في التشبث بمستحقات المواطنة، فأمجاد الدولة الفنلندية لن يسرقها اللاجئون كما يدعي العنصريون البيض بل يبعثرها المتبطلون الكسالى من مواطنيهم..

كانت إزالة الوشم العنصري في كلا الفيلمين إشارة واضحة إلى الخواء المريع الذي تتلطى خلفه الشعارات الدامية، فالقاتل الذي خسر عائلته احتمى بالعنصرية تهربا من مواجهة الواقع، أما تبيو فواظب على الانتقام من المغاربة الذين اغتصبوا صديقته انتقاما منه، بدل أن يواجه فراغه العاطفي. والأمر يشير برمته إلى أزمة الانغلاق المجتمعي التي تعيق التواصل الحضاري البناء.

العدد 1104 - 24/4/2024