الشرف الشرقي كما تنسجه «أليف شافاك»

في روايتها الأخيرة (شرف) تعود الكاتبة التركية (أليف شافاك) الى ما دأبت عليه في رواياتها السابقة، إذ تواصل رحلتها عبر مدن العالم، ململمة حكايا ناسه وشعوبه، وبروح بدوية حرة ترتحل شرقاً وغرباً، لتطرق أبواب القلوب الإنسانية وتستخرج ما في غياهبها من عواطف ومخاوف وآمال، فكما تنقلت من (أرمينيا) الى (أميركا) في رواية (لقيطة اسطنبول) لتجمع التركي والأرمني بحثاً عن التواصل الإنساني الذي يتجاوز المخاوف التاريخية الكامنة، نجدها مرة أخرى قد طارت بين الحقب لتكشف التناقض بين صوفية الشرق ومادية الغرب في روايتها (قواعد العشق الأربعون). أما  في (شرف) فالروائية تعمل على معابثة الزمان والمكان، فتحلق بين الماضي والحاضر، وتنتقل من قرية تركية منسية على نهر الفرات الى (لندن) لتتبع مسير أبطالها ومصيرهم. هؤلاء الأبطال الذين لم يهاجروا وراء شهادات عليا أو وظيفة فخمة، وإنما رمتهم أقدارهم هناك بحثاً عن رزق قليل في مدينة غريبة لم يحسنوا الانسجام معها، بل تراهم في كل خطوة يجرون وراءهم إرثهم المزعج مثل حقيبة ثقيلة.

والكاتبة إذ تطرق موضوع الشرف الشرقي، وهو موضوع قديم متجدد على الدوام، فإنها تقتحمه من أكثر من باب وأكثر من ضحية، وأولها شخصية البطلة (بمبي) التي ولدت في قرية (الرياح الأربعة) هناك حيث عاش على مدى قرون طويلة النصارى والمسلمون والزرادشتيون واليزيديون جنباً لجنب و وأحبوا بعضهم بعضاً وماتوا جنباً الى جنب. فالفتاة التي نشأت في عائلة كردية،ولأم أنجبت سبع بنات أخريات غيرها، والتي ماتت وهي تتوق لولادة ذكر، نجد أن هذه الفتاة تحمل في داخلها عقدة أمها، لتغدو عقدة مستعصية لدى ولادتها لابنها (اسكندر) الذي تقوم بتربيته في (لندن) وفق كل الطقوس الشرقية الكفيلة بأن تجعل منه شخصاً جديراً بأن يمزق قلبها إرباً إرباً كما تنبأت لها عرافة عجوز. وهي إذ تهاجر الى عالم جديد برفقة زوجها (آدم) تجد نفسها هناك تعيش على هامش الحياة في حي للمهاجرين الفقراء، بل تصبح ابنة القرية حبيسة بيت تحت الأرض لا ترى من نافذته سوى أقدام المارة المستعجلين، فتصبح تسليتها هي تخيل حياة لتلك الأقدام السائرة بجانبها… وحين تفكر لأول مرة بالخروج من كآبة حياتها الزوجية، وتقيم علاقة صداقة مع (الياس) فإنها تصبح هدفاً لجلادي عائلتها الذين يستلون سيف الشرف لتنفيذ حكمهم فيها بيد ابنها المعبود (اسكندر) بمجرد الشبهة والظن.

ومن خلال قصة (بمبي) تتفرع الحكايا وتتشعب مثل شجرة  كثيفة، لنتعرف على شخصية (آدم) زوج بمبي الذي يعيش حاملاً جرحاً أسرياً قديماً صنعه والده مدمن الكحول، ووالدته التي هربت مع شخص آخر بعد أن فشلت في وضع حد لحياتها بالانتحار، وهو نفسه يعاني من إدمان القمار ومن عشق غانية تعمل في ناد للتعري، ويشكو فشله في التكيف مع بيئة (لندن) حيث البيوت الصغيرة العفنة والنقانق المصنوعة من لحم الخنزير والمرهقين الذين يصبغون شعرهم باللون البنفسجي، بحسب تعبيره، فيهاجر مجدداً الى (أبو ظبي).

وكما وقعت (بمبي) ضحية لمفهوم الشرف، نراها تعود بنا نحو الماضي، لنكتشف أنها فقدت سابقاً شقيقتها الكبرى الحنون التي كانت تقوم لدى الشقيقات السبع بمقام الأم منذ مطلع حياتها، بعد أن قضت الوالدة نحبها في الولادة. وفي مقطع مؤثر لمصير (هدية) التي جلبت العار لأسرتها ترسم (بمبي) الطفلة  مشاعرها وهي تتصور حال أختها بينما هي وشقيقاتها الأخريات يقضين ذاك اليوم العصيب في حياكة السجاد اليدوي: (وأدخلت بمبي سراً في نقوش السجادة نقشاً لم يكن جزءاً منها. ولو تنبه له أحد ما، وكانت واثقة أن أحداً ما سوف يتنبه له، وكان النقش علامة صغيرة متمثلة بالحرف هاء الذي سيكون تذكره باسم شقيقتها. وعندما ينتهي العمل، فإن السجادة سوف تباع الى تاجر من أهالي المنطقة، الذي سيبيعه بدوره الى تاجر أكبر شأناً، وسوف تنتقل السجادة الى دكان أنيق من دكاكين السوق الكبير في اسطنبول، وسيراها رجل وامرأة من السياح ويشتريانها حتى إن كلفتهما ثمناً باهظاً. وسوف تنتقل السجادة بعد ذلك الى مدينة باريس أو امستردام أو نيويورك، أو الى أي مكان يقطن فيه المشتريان وسيكون حرف الهاء متوارياً عن الأنظار، ولكنه باق الى ما لا نهاية في كل الأحوال).

تتميز رواية (شرف) بما تقدمه من قراءات ناضجة في الكثير من خصوصيات الأقليات. فهي ترجع الى الماضي القديم المؤطر بأطره الثقافية والبيئية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لتقدمه في قوالب روائية مثيرة، وهذا يعود الى ما تتمتع به الكاتبة من رؤى ثقافية واسعة الآفاق، ومن زاد معرفي  متنوع الأبعاد.

وإضافة الى موضوع الشرف وغسل العار الذي عالجته بروح مبدعة، نجدها قد وضعت يدها على بذرة خطيرة كانت تنمو على مهل في المجتمعات الغربية بين أوساط المهاجرين المسلمين، وهي بذرة التطرف التي أنتجت جيلاً مما نراه اليوم يتدفق على بلادنا مثل الطاعون، وفي الرواية أكثر من شخصية تمثل هذا الاتجاه، مثل شخصية (محمود بابا) الذي يسأل (آدم) حين يذهب لاستدانة المال منه (هل زوجتك محجبة) فيرد الآخر بالنفي، حينها يقول له محمود بنبرة وعظية: (إذا ما منحك الله يوماً زوجة أخرى، ففكر في الحجاب. عيونهن لا ترى سوى بيوتهن). وكذلك شخصية صديق ابنه الملقب بـ (الخطيب) فهو يعقد الاجتماعات ويثير مشاعر المهاجرين ضد أهل البلد.

في النهاية أقول إن الرواية غنية وفيها من عمق الشخصيات وبراعة الأسلوب ما يجعلها تبدو كسجادة شرقية تحوي من الألوان الوردي والرمادي والأخضر والبني، وبقدر ما تبدو الألوان متنافرة في وحدتها، فإنها في اللوحة العامة تنسجم مشكلة حكاية إنسانية عميقة، دون ان تغفل الصانعة عن الاحتفاظ بأغرب المفاجآت للنهاية، فتكون كالخيط المخفي في نسيج السجادة الرائعة.

العدد 1105 - 01/5/2024