الآلهة المضطهدة

الأنثى.. الكيان العاصف بالمشاعر والعواطف، العالم المتكامل، المرتبط بدورة الطبيعة والكون، الرحم الخالق كرحم الأرض.

وضعت أسس الحياة الزراعية في المجتمع الأمومي، واخترعت الكتابة بدليل كثرة وجود آلهة مختصة بالزراعة وحسابات المعابد والألواح (نيدادا السومرية مخترعة الألواح الطينية وساواسفاتي الهندية مخترعة الأبجدية الأولى) خرجت من ضلع الذكر في الميثولوجيات الشرقية، وأسست الفكر الألوهي. أخرجت من مائها العائم في اللامكان الإنسان الأول، هي الإلهة الأولى للإنسان العاقل ( هوموسابينس ) الذي بجّلها بفكره البدائي وبغريزته الفطرية، مقدّساً الخلق من رحمها، فرسمها على الجدران، وصنع لها تماثيل مُبرزاً فيها وركيها وصدرها، بينما الذكر دائما كان الطفل الرضيع الذي لا يشبع من عطائها سواء كان زوجها أو أباها أو ابنها، فهو ليس سوى طفل بين يديها.

 ففي كل الأديان السماوية يبدأ خلق الكون بالآلهة الإناث (الإلهة نمو في أسطورة الخلق السومرية، والإلهة تهامة في إينوما إيليش البابلية)، في عصر لا يسوده إلاّ الزحف السلمي للهجرات البشرية، في ظل مجتمع مشاعي، إلى إن وصلت الهجرات الهندوآرية، ناقلة معها فكرها الذكوري، فارضة النظام الأبوي، وإلهها الذكر على الشرق الأدنى القديم، فتقلص دور الإلهة وبرز الإله الأعلى (آن – مردوخ – أنليل – آنو- كوماربي – هدد …). ومع ذلك بقيت تناضل من أجل بقائها كإله فاعل في عملية الخلق والتكوين. لكن، وبدل أن تكون الطرف الأساسي أصبحت طرفاً ثانياً مساعداً، فهاهي نينتي التي خلقت من ضلع أنكي ورافقته في خروجه من أرض دلمون الخالدة إلى الأرض الفانية، وها هي أفروديت تلتقي بأدونيس الفينيقي على شواطئ المتوسط، الإلهة العاشقة تختال وتنشر البهجة مع ازدهار الطبيعة بفصل الربيع، وعشتار الإلهة الغاضبة والعاصفة والمدمرة في تقلبات الشتاء والمنتقمة من انكيدو، وإنانا الإلهة المعطاءة في حصاد الصيف، رمز التجدد والعطاء والحب والحرب، ومنقذة دوموزي من عالم الأموات، فبقيت تتلقى العطايا والقرابين في معابدها بالرافدين.

هي شاوشكا وعناة وخبات وعشتاروت وإيزيس وأوسيت… إلى أن حُجّم دورها وألغي مع الأديان السماوية التي قلّصت مسألة الخلق والتكوين بالإله الواحد، وتحولت هي إلى قالب من صنعه، تابع لمخلوقه آدم، تغويه وتتسبب برميه خارج الجنة، لا تنتمي للعالم النوراني إنما للعالم الفاني، خاضعة لقوانين ومحرمات الإله الذكر، بل سعى رجُلُها باسم إلهه إلى إلغاء دورها، فهو لا يراها سوى إهانة له ولشرفه وكرامته، كما خُطط له في أسطورة آدم وحواء التي تهدف إلى التقليل من دورها وقدراتها ومحاولة السيطرة عليها.

فتحمّلت من الإله الذكر الكثير من العقوبات بتهمة قصرها وضعفها الجسدي والذهني بحسب قوانينه الموضوعة منذ بداية الهجرات بهدف القضاء على عبادة الآلهة الأنثى، فتحول حينها وحتى وقتنا الحالي إلى عرف وعادة، وأهمها أن المرأة لا تستطيع أن تأخذ قرار مصيرها ومستقبلها بدون تدخل الذكر في حياتها، حتى أنه أجاز لنفسه قتلها بحجة الحفاظ على سمعته.

كما شرّع قوانين تُدعّم سلطته وتبعيتها الدائمة له، إن كان أباً أو أخاً أو زوجاً وأحياناً ابناً، فمثلآً من العار أن يسكت الرجل عن زنى المرأة، وعليه أن يقتلها ويقتل عشيقها.

إن هذه القوانين التي شرّعها المصلحون، كانت مادية مجردة دخلت المجتمع وارتبطت بالأمور المعنوية، وغاب عنها القانون حتى أصبحت عرفاً وعادات سارية إلى يومنا هذا، لأنها مرتبطة بالشرف والكرامة.

كل هذا أدى إلى اضمحلال أو تلاشي دورها في السلطة بشكل نهائي، وأصبح الحكم بيد الذكر الذي حولها إلى جارية في قصوره. وانتهى وجودها في العرش الإلهي، ولا نرى لها ذكر بمرتبة الألوهة في الأديان السماوية، فلا هي مع الرب في الخلق ولا هي ملاك مطيع له، إنما هي حورية تنتظر المؤمنين وجنية تغوي الضعفاء.

العدد 1105 - 01/5/2024