حدادة: الحوار الوطني السوري… هو البديل

نشرت مجلة «النداء» في عددها الأخير افتتاحية للرفيق الدكتور خالد حدادة الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، هذا نصها:

 لا أذكر أين قرأت قولاً للمفكر أندريه مالرو: (ليس لنا الموت الذي نستحق، بل الموت الذي يشبهنا)، ولكن أعرف جيداً أنه لمع في خاطري حين شهدت مقاومة محمد دكروب للموت في أيامه الأخيرة، وخاصة بعد إبلاغنا من الأطباء عجزهم عن فعل أي شيء (والقضية قضية ساعات)… قاوم طوال الليل وذهب مع ساعات الفجر… فجر 24 تشرين الأول.

نعم كان له (الموت الذي يشبهه) فاختار دمج ذكراه، ذكرى رحيله بذكرى تأسيس حزبه… لم يكن لدكروب قدرة تحديد الولادة، (فحدد) تاريخ الرحيل.

رحل الشيخ الفتى، الباحث الدائم عن الالتزام والفكر والحب والجمال… رحل بعد أن أعاد الحياة إلى (الطريق)… تلك الزاوية التي أصرّ على إبقائها منيرة في نفق ثقافي عربي مظلم.

كم كان هذا (الطفل) فرحاً حين أبلغته قرار قيادة الحزب باستئناف إصدار (الطريق). وكم كان مكتفياً حين لامس القرار قناعاته (أنت حر، في إصدارها، محتوى ومواضيع وشركاء لك في الكتابة والتحرير).

وكم كان فرحاً، حين رأى انتفاضات مصر وتونس، أمل جديد لم يعرف، هل كان انعكاساً لإستعادة لحظة ولادة (طريقه) أو مصادفة- واعية، أمل أضاف إلى (الطريق) نوراً أكبر، في مستقبل عربي أكثر إشراقاً، وكما كان واثقاً من حجم التحديات التي تواجهه في (الطريق)، كان مليء الثقة بالحراك الثوري في العالم العربي، رغم وعيه للصعوبات والهجمات المضادة التي تواجهه.

رحل الدكروب، وبقيت سنديانته ومعها رونق الورد الدائم التجدد، الذي أراده لها.

*   *   *

وكأن (جنيف) أصبحت أشهر المدن العربية، فبعد أن كانت خلال أعوام الحرب الأهلية اللبنانية إحدى المدن- الرجاء، التي نظر إليها اللبنانيون لتكون مركز الحوار اللبناني، برعاية عربية ودولية، لإنهاء إحدى جولات الحرب، أصبحت اليوم وكأنها المدينة- الرجاء، لجلب ترياق الحل الدولي – العربي، للأزمة السورية.

في الحرب اللبنانية، وبعد أن كانت المواجهات الأولى قد بدأت على أساس شعارات وتحركات، ذات طابع ديمقراطي وشعبي، أرادت منه الحركة الوطنية والشعبية في لبنان طريقاً للتغيير الديمقراطي، وبناء حكم وطني ديمقراطي، بديل (للدولة الطائفية) المختارة من البرجوازية والانتداب طريقاً لحكم لبنان… وكذلك طريقاً لخيار لبناني – عربي يرفض منطق الحياد بين العروبة والعدو الصهيوني، بين (فلسطين) ومغتصبيها… وبالتالي كانت مواجهة بين الحركة الشعبية اللبنانية والبرجوازية التابعة للخارج والممسكة بالدولة… وبعد انكشاف ضعف الدولة وأجهزتها في مواجهة هذا الحراك الشعبي، سلمت الراية للجماعات الطائفية، بداية لترفع شعار الدفاع عن الدولة، وأية دولة ( غريب هذا الاستمرار لهذا الشعار عند الجماعات الطائفية المصادرة للدولة، حتى اليوم) ولتحول المواجهات الشعبية، إلى حرب أهلية، غلبت عليها الاصطفافات الطائفية، (والمذهبية في مرحلة لاحقة) لضرب استهدافات الحراك الشعبي، وللحفاظ على أسس النظام و(الصيغة) والاستعانة بالخارج، وبالتالي الانضواء الكامل في إطار المشاريع الدولية والإقليمية… وهذا ما طال إلى حد بعيد، وإن في مراحل لاحقة، معظم قوى الصراع إن لم يكن كلها، بغض النظر عن طبيعة هذه الانتماءات.

نستعيد ذلك لنقول، إن الصراع والحل، أو الصراع والحلول، أصبح بشكل واضح في يد التوازنات الإقليمية والدولية، فكانت مؤتمرات لوزان وجنيف وبيت الدين والقاهرة، ودمشق والطائف والدوحة و….. تنعقد في ظروف توازنات إقليمية، ولأهداف إقليمية ودولية، تلعب فيها الأطراف اللبنانية المتصارعة (الطوائف) دور الكومبارس، ويغيب عنها الشعب اللبناني ومصالحه التي تحولت جزءاً من مصالح أمراء الجماعات والميليشيات الطائفية المتصارعة.

ولأنها كانت كذلك وبرعاية دولية وإقليمية، بغياب الحاسم الوطني، الناتج عن حاجات وطنية داخلية، كانت هذه المؤتمرات وما زالت، مؤتمرات، لإنهاء جولات من الحرب والصراع وليس لإنهاء الحرب الأهلية، إنها جولات مع صيغ مؤقتة، تكرس الدولة الطائفية المولدة للصراعات والحروب، وآخرها صيغة الطائف التي انتهت، وهي تحضر لجولات جديدة من الحرب الأهلية المستدامة، التي هي سمة النظام اللبناني.

*   *   *

نستعيد هذه الانطباعات، لأننا في ضوء التحضير المتعثر لمؤتمر جنيف 2 السوري، نخشى على سورية من مصير يشابه الوضع اللبناني، فتدخل معه سورية في حرب أهلية مستدامة… ويلحق مع كل جولة، جنيف ولوزان و… وتدخل سورية بالتالي لعبة الاختلال في التوازنات الإقليمية والدولية، تفقد معها، دورها الأساسي في إطار القضية الوطنية والقومية الكبرى وبشكل خاص قضية فلسطين.. فتصبح هي الساحة والقضية، بدل أن تكون مركزاً للمواجهة في إطار القضية الأساس. والأخطر، أن يُدَقّ في كل جولة من هذه الجولات مسمار جديد في نعش الدولة الوطنية، لصالح تكريس حالات ميليشياوية- جغرافية تتغير معالمها مع كل جولة من جولات الصراع، على وقع موازين القوى الإقليمية والدولية، وعلى وقع اتفاق أو اختلاف الاستقطابات العالمية والإقليمية، وتحديداً على وقع حاجات تنفيذ المخطط الأمريكي تجاه المنطقة…

فها هي الآن، الدول الكبرى، برعاية شكلية من الأمم المتحدة وبغياب كامل لسورية، الدولة والمعارضة، تجتمع في جنيف، لتحديد جدول أعمال المؤتمر والقوى المشاركة فيه… وعند كل استعصاء، ستبدأ جولة جديدة من الصراع وتفتح (حنفيات) المال والسلاح، ويحصي الشعب السوري والجيش السوري شهداءه، وتعد القوى المجاورة عدد النازحين.

هل هذا يعني رفضاً من قبلنا لمؤتمر (جنيف)؟! بالتأكيد ليس كذلك، فنحن مع الحل السياسي ومع الحد من مآسي الشعب السوري ومن عملية انهيار وتآكل الدولة السورية ووحدتها وجيشها ومؤسساتها.

ولكن هذا الذي أشرنا له، هو بالتحديد، محاولة للتخفيف من الرهان على الحل الخارجي، ودعوة للبحث الجدي بطرق أخرى، تحفظ لسورية وحدتها أرضاً وشعباً ومؤسسات.

فالحل الخارجي، سيكون مدمراً لو جاء على شكل تدخل خارجي عسكري، وهذا ما تم تلافيه مؤقتاً… وسيكون بالتأكيد مضعفاً لسورية ولدورها، إذا ما كان هو الحاسم في إيجاد حل للصراع… لأنه حتماً سيبقى على مبدأ التحاصص والفرز، على قاعدة مصالح القوى العالمية والإقليمية وليس التزاماً بمصلحة سورية وشعبها.

*   *   *

الخشية أن يجعلوا سورية ودولتها وتكوينها، على نموذج (الصيغة اللبنانية)، بأبعاد طائفية وعرقية… وإذا كانت قوة الحسم الوطنية غائبة في المراحل المستمرة من جولات الحرب اللبنانية و(مؤتمرات حلها)… فإن المطلوب اليوم، منع جر سورية إلى هذا المستنقع.

بالتأكيد الحلول الأمنية والعسكرية، لم ولن تكون هي الحل، و(الحاسم الوطني) الذي ندعو له لا علاقة له بالحل العسكري.

ولعلّ التعثر الذي يعانيه (مؤتمر جنيف)، يكون دافعاً لوضع أسس هذا الحوار الوطني الداخلي، الذي يجب أن يكون منطلقاً من وقف (مناورات الإصلاح) التي يرشها النظام، واتجاهه الفعلي لحوار وطني يراعي مصلحة سورية وشعبها في بناء دولة مدنية ديمقراطية، ويقتضي بالمقابل شجاعة حقيقية عند أطراف المعارضة الديمقراطية السورية في الحوار مع الدولة على أساس هذا الهدف، بعيداً عن الاستقواء المضمر بالخارج، لتحسين موازين القوى.

هذا الحوار الوطني الداخلي، هو الذي نقصد به قوة الحسم الوطني الداخلية… ولا ندعي أن هذا النوع من الحوار سينهي الأزمة بلمسة ساحر… بل سينقلها حتماً نحو حالة وطنية جديدة، تحاصر قوى الإرهاب وعصاباته، وتصعّب على الخارج، وبشكل خاص على محور الهجمة المضادة الممتد من الولايات المتحدة إلى السعودية وتركيا، تحديد مسار هذه الأزمة والتأثير على مستقبل سورية… كما أنها تضع حدوداً لإمكانيات (المحور الآخر) من أن يحول سورية إلى ورقة للتفاوض مع المحور الأول على قضايا أخرى.

هذا الحوار الوطني، وقوة الدفع الوطنية التي ينتجها، هو الكفيل بالحفاظ على وحدة سورية وديمقراطيتها ومدنية دولتها ومؤسساتها، وهو وحده أيضاً الكفيل بالحفاظ على موقع سورية في احتضانها ودفاعها عن نهج المقاومة في فلسطين وكل العالم العربي، وسيساعد في خلق حالة عربية جديدة، تُطور ما هو إيجابي في الحالة المصرية الراهنة وغيرها من الدول العربية.

هذا النهج هو وحده الكفيل، بعدم وضع سورية، في دوامة شبيهة بدوامة المالكي، الذي يقفز مرعوباً بين أوليتين، أن يكون في محور (الممانعة)؟ أو أن يستجدي من أوباما تحالفاً، يواجه به الصراع الداخلي… هذا الحل الوطني هو وحده الكفيل بوضع سورية في موقع قوي، يجعلها حاسمة وغير مترددة في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة.

 

العدد 1105 - 01/5/2024