شظايا اجتماعية

بعيداً عن الموت والقتل والدمار، هذه قصص من القليل جداً الذي نعرف، سمعتها من أفواه أصحابها:

أن تنزح كل العائلة إلى مكان آمن، أياً كانت ظروف هذا المكان، هو الأفضل نسبياً لأنه كمثل الرمد أحسن من العمى، بالمقارنة مع شباب بالكاد تجاوزوا سن الطفولة نزحوا بمفردهم لا هوية ولا شهادة تعريف يحملونها.

يافع عمره أربعة عشر عاماً، أصيب والده وأُقعد عن العمل، فنزح بمفرده من ريف حلب المشتعل إلى دمشق للعمل أو للتسول، يعيش حالياً في الشوارع. هكذا تكلم التشرد بلسانه، وحكى الحزن في عينيه قصة مأساته، يطلب يائساً شهادة تعريف، وهو الغريب الذي تنكره حتى الأرصفة. 

وتلك وردة يانعة في السادسة عشرة من عمرها، تمردت وخرجت من كنف عائلتها البائس في مخيم اللاجئين السوريين بالأردن، لأن والدها يريد تزويجها رغماً عنها من زوج أختها التي توفيت إثر قذيفة سقطت على منزلها. وصلت الفتاة إلى منطقة آمنة في ريف دمشق، وتسعى لاستصدار هوية أو أي ورقة تثبت شخصيتها، والمعوقات كثيرة كونها قاصراً لا معرِّف لديها، تعمل في الملاهي أو المطاعم، وتبيت فيها، وكونها وحيدة فهي لقمة سائغة في أفواه الجشع الجنسي، والتحرش بها متاح لأنها تحت رحمة من آواها ليذلها، وكي تنقذ نفسها قررت استئجار غرفة، وهذه الخطوة تحتاج أوراقاً ثبوتية… أما المفتاح فهو بيد الطحان، ولكم أن تتصوروا نهاية الرواية.

تلك التي تبرأ منها والدها! بعد أن تركتها أمها اليمنية في عمر السنتين وعادت إلى بلادها، فتركت حمص المنكوبة، وسكنت دمشق لتتعرف على شاب وتتزوجه عرفياً، وكونها قاصراً لا تستطيع تسجيل الزواج، لأن هذا يستوجب موافقة الأب، ولم تلبث أن اختلفت مع زوجها، وقررت الانفصال عنه لولا تهدئة من اكتشف أنها آيلة للضياع الكامل. هذا ما روته الفتاة ولا نعرف صدقها من كذبها.

وكمن يبحث عن سمكة سقطت منه في البحر؛ تبحث الأم عن ابنتها التي خرجت ولم تعد، ولا تدري ما مصيرها، هل هي ضحية تفجير أو قذيفة؟ أم ضحية قسوة أبوية وتفكك أسري اعترفت به.

أما التي وجدت في نفسها سندريلا عصرها، وهي في التاسعة عشر، بعد أن تزوجت الأمير هربا من زوجة الأب وبناته، وبعد أقل من سنة اختفى ولم يعد له أثر، لم يأت لعائلته أي خبر عنه. وحين طالت مدة اختفائه، طردها أهل زوجها، فعادت لمنزل والدها تعمل فيه خادمة تحت سلطة زوجة أبيها وابنتيها، تسرد قصتها وتقول: أشعر بأني سندريلا الخائبة؛ وتشق ابتسامة وسط شلال من الدموع.

ونتيجة الخلاف الطائفي طُلِقَتْ تلك التي تمردت ذات حب على أعراف طائفتها المتوارثة، وتزوجت عرفياً دون الالتفات لذلك، وقبل تسجيل الزواج في المحكمة المدنية، اشتعل بينهما خلافاً عقائدياً مع تهديد زوجها بأنه يستطيع قصفها هي وعائلتها، فخرجت صفر اليدين، زوجها من جهة، وأهلها الذين تبرؤوا منها من جهة ثانية باعتبارها نكّست عقالهم.!!، واحتمال قتلها وارد في حال عودتها إليهم، فتشرّدت هائمة على وجهها، ولكم أن تتصوروا مستقبلها…

علامات حزن لا يحمله جبل، وغصة ودمعة حبسها المراهق مكابرة وهو يقول: زتتني أمي. المرأة التي ربتني عاجزة، وليس لي ولي أمر غيرها. هو الذل بذاته حين يعيش مجهول النسب في مجتمع لا يرحم. 

أي مستقبل ينتظر هؤلاء؟ وما هي الحلول الحكومية القانونية الكفيلة بالتغلب على مشاكلهم؟ أليس للضرورة أحكام تستوجب الاستثناءات؟ كيف يتم تفعيل أعمال منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية؟ خاصة ضمن دائرة مخلفات الحرب التي أسفرت عن قنابل اجتماعية موقوتة، قابلة للانفجار في كل لحظة، وعُقداً مستعصية إن لم نجد لها حلاً استحكمت في وجه كل أمل.

فيا أيها المجتمع بأي سبيل ستنهض…؟؟

الوطن ليس أرضاً ولا سماء ولا هواء، الوطن هو الإنسان..  ومتى ضاع الإنسان ضاع الوطن.

العدد 1105 - 01/5/2024