طفولةٌ فقدت براءتها

وصنْ يا ربّ ضحكة الأطفال إنها

إذا غرَّدت في ظامئ الرمل أعشبا

ضحكة الأطفال..!!!!! أي طفولةٍ، وأي أطفالٍ هم أطفال بلادي اليوم وبعد كل هذا الدم والدمار….؟

لم يتبقَ من الطفولة إلا اسمها، فما يحدث قد حوّل قهقهات الأطفال البريئة سابقاً إلى زمجراتٍ ورعود.. وألعابهم صارت هي العصا والمسدس والقنبلة في محاكاة حثيثة وتقليد للكبار المتحاربين بكل أبعاد الحرب الدائرة اليوم.

ما دفعني للخوض في غمار هذا الموضوع، ما أراه بأم عيني في المدارس، لاسيما في المرحلة الابتدائية، من عنفٍ وتشويهٍ لأرواح تلاميذنا، ووأدٍ لبراءة طفولتهم.

لم يتبقّ من الألعاب التي من الممكن أن تشغل الأطفال وتأخذهم إلى واحاتٍ لا نحلم بها نحن الكبار، لم يتبقَ سوى ألعاب الحرب والقتال، لم يبقَ سوى الشجار ولأتفه الأسباب، غابت البراءة والطيبة واللطف بالتعامل، وقُتل الحنان والحب بينهم.

في كل أسبوع لدينا في المدرسة ما لا يقل عن حالتين أو ثلاث حالات من الإصابات التي نضطر فيها لإسعاف أحد التلاميذ إلى المستوصف القريب منا لتضميد جرحٍ، أو مداواة إصابة.

وفي كل حصةٍ درسية تقريباً لمادة الرياضة مثلاً كونها مادة ترفيهية، لا يكفينا الوقت المخصص للحصة كي نحل المشاكل التي تحدث بين التلاميذ، رفاق مقعدٍ دراسيٍ واحد، والأسباب جداً تافهة، وأنا أتقصد أن أستخدم هذا التعبير (تافهة)، ليس إقلالاً من قيمة التلاميذ، بل لأن هناك ما يقلق حقاً.

فمن أجل الكرة مثلاً من الممكن أن نركض إلى المستوصف، من أجل كلمةٍ من الممكن أن ينشب عراكٌ بالأيدي يتحول إلى معركةٍ حقيقيةٍ بين عددٍ لا يستهان به من التلاميذ، ذلك لأن كل تلميذ لديه (شلة) تدافع عنه وربما تقاتل نيابةً عنه، وتجدنا نحاول إبعادهم عن بعضهم، ومن الممكن بأية لحظة أن ينوبنا كفٌ من هنا أو ركلةٌ من هناك.

أذهلتني الحالة حينما بدأت أتمعّن فيها، وأرعبني مستقبل هؤلاء الأطفال، فبدأت أتسارر مع بعضهم، عن بيته، وعائلته، وأهله، ومسكنه، وووووو…………..

وبعد مدة من التحدّث مع الأطفال، وبعد تجميع المعلومات بذهني، صرت أقول لنفسي، كيف لي أن أصاب بالذهول، ومن هؤلاء الأطفال من رأى أحد والديه يُقتل أمام عينيه، ومنهم من أُجبر على ترك بيته الذي فتَّح عينيه فيه على الحياة لينتقل إلى أمكنةٍ مجهولةٍ بالنسبة إلى مداركه الصغيرة، فيشعر بالغربة أينما حل به المطاف، ومنهم أيضاً من يبحث عن والده المفقود أو عن أمه الغائبة وهو لا يزال يتلعثم بالكلمات، فلا يعرف لصغر سنه أن يجمعها، أو أن يستخدم التعبير المناسب..

والقصص كثيرةٌ لا مجال لعدها أو إحصائها هنا، هذا على نطاق مدرسةٍ واحدة، فما بالنا إن وسعنا نطاق البحث والتنقيب؟؟؟

لا أرغب بالتذكير باتفاقيات حقوق الطفل في حالات النزاعات، ولست بصدد إلقاء الخطابات الرنانة عن كيفية التعامل مع هذه الحالات، فقط رغبت أن أبوح بما يقلقني وما يعتمل بداخلي من ألمٍ عندما أرى هؤلاء الذين سنبقى نطلق عليهم صفة الأطفال، على الرغم من أن قصصهم جعلتهم يكبروننا بسنواتٍ عديدة، جعلتهم أكثر وحشية ودموية، وأبعد ما يكون عن براءة الطفولة التي نعرف، وجعلت قهقهاتهم صرخات يثأرون من خلالها لما فقدوه دون وعيٍ منهم، ودون أي اهتمامٍ منا.

العدد 1105 - 01/5/2024