موسكو تحاور أطراف الأزمة السورية تمهيداً لجنيف 2

تكثفت الجهود الروسية، بشكل لافت للانتباه مؤخراً، عبر اللقاءات والاتصالات الرفيعة المستوى، حول إشكاليات منطقة الشرق الأوسط، وملفاتها المتعددة، وتصدرها ملفَّيْ الأزمة السورية وآليات وسبل حلها، المؤجلة منذ أكثر من عام  وبضعة شهور (وثيقة جنيف في 30 حزيران عام ،2012 ثم (التفاهم) الروسي – الأمريكي في 7 أيار عام 2013)، كذلك مفاوضات اللجنة السداسية (5+1)- إيران المتتابعة بشكل مكثف منذ أسابيع، والتي أطلق عليها المختصون (جنيف 3)، بعد أن أنجزت هذه المفاوضات جنيف ،1 ثم جنيف ،2 والتي يبدي أطرافها تفاؤلاً، باستثناء فرنسا المصرة على التغريد خارج السرب، وخارج الإرادة (الدولية)، انسجاماً مع مصالحها الضيقة من جهة، وتنسيقها في موقفها هذا مع عدد من الدول المنشغلة بهذا الملف وبضمنها إسرائيل.

الاتصالات الروسية – السورية المتواصلة على مستويات مختلفة، والمترافقة مع التنسيق الثنائي الرفيع المستوى بين العاصمتين موسكو ودمشق في المجالات كافة، توجت في منتصف الشهر الجاري (14/11) باتصال هاتفي من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره السوري الرئيس بشار الأسد، بعد أكثر من عامين من بدء الأزمة السورية. ركز خلاله بوتين على الجهود التي تبذلها روسيا بالتعاون مع شركائها من أجل التحضير النهائي لعقد مؤتمر جنيف ،2 وقيّم عالياً استعداد سورية لإرسال وفد حكومي سوري إلى هذا المؤتمر. كما عبر عن قلقه وبلاده من أعمال المتطرفين ضد البنى التحتية ومؤسسات الدولة ومرافقها العامة، كذلك استهداف الأقليات وتبعاته الإنسانية والديمغرافية والإثنية الخطيرة، التي تؤكد حقيقة مواقف هذه المجموعات المتطرفة أساساً. كما عبر عن الارتياح للتعاون القائم الإيجابي بين السلطات السورية وبعثة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية الدولية.

وقد أعقب هذا الاتصال، خلال أيام قليلة، زيارة وفد رسمي سوري رفيع المستوى إلى موسكو، تلبية لدعوة مستعجلة من الخارجية الروسية (17-19 تشرين الثاني)، ضم نائب وزير الخارجية د. فيصل المقداد، والمستشارة الإعلامية في الرئاسة السورية د. بثينة شعبان، ومسؤول العلاقات الأوربية في الخارجية السورية أحمد عرنوس.

وقد أجرى الوفد الحكومي السوري سلسلة لقاءات هامة ومفصلة في الخارجية الروسية مع نائبي وزير الخارجية الروسي (غينادي غاتيلوف وميخائيل بوغدانوف)، توّجت بلقاء مع الوزير سيرغي لافروف أيضاً. وبحثت في الصعوبات (المصطنعة) لأسباب عديدة، حول عقد جنيف 2 المؤجل مراراً وتكراراً. وإقرار الأطراف الدولية الثلاثة (روسيا، الولايات المتحدة، الأمم المتحدة) في الخامس من تشرين الثاني الجاري، تأجيل عقده، الذي كان مقرراً في 23-24 من هذا الشهر، إلى شهر كانون الأول، أو مطلع شهر كانون الثاني، وفق تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الأخيرة، واستبدال موعد هذا المؤتمر بلقاء ثلاثي دولي جديد (روسي، أمريكي، أمم متحدة) في 25 تشرين الثاني الجاري، بهدف البحث في موعد (نهائي) لهذا المؤتمر العتيد.

وإن تكتم الطرفين الروسي والسوري على طبيعة المباحثات الثنائية، فإن تصريحات المراقبين، إضافة إلى العديد من المؤشرات والدلائل الهامة، أكدت أن النقاشات تركزت، كما هو متوقع، على المؤتمر وعلى كيفية مكافحة الإرهاب، وتبعاته الخطيرة على سورية، وعلى دول الجوار السوري أولاً، وعلى الدول التي (سهلت) أو غضت النظر عن سفر مواطنيها ل(الجهاد) في سورية ثانياً. كذلك ضرورة دعوة قوى إقليمية منشغلة ومؤثرة في الحالة السورية بهدف مشاركتها في المؤتمر (إيران، السعودية مثلاً).

وخلافاً للقاءات شبه الدورية الروسية – السورية السابقة، فإن زيارة الوفد السوري الحكومي الأخيرة، توجت مباحثاتها بالتوافق على مسائل عديدة هامة للطرفين، وبضمنها مواصلة الجهود للتحضير لخواتم الاستعداد للمؤتمر، وأن هدفه يتجلى في إنهاء الأزمة السورية، كذلك ضرورة مشاركة أطراف إقليمية في هذا المؤتمر. وتأييد سورية لتوسيع دائرة الأطراف المشاركة في جنيف ،2 باستثناء الإرهابيين وأكلة لحوم البشر، والمرتهنين للأدوات والوكلاء (الصغار) في الأزمة السورية وتبعاتها.

ورغم تأكيد روسيا أن جنيف 2 سيعقد بناء على وثيقة لجنة العمل الدولي المقرة في جنيف 30 حزيران العام الماضي (التي تنصلت منها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون)، فإن روسيا أكدت مجدداً تصحيح ما يشاع عن ماهية الوثيقة، وبأنها نصت على (هيئة حكم مشتركة) بالتراضي بين سورية و(المعارضات) على اختلافها وتبايناتها، تتولى كل السلطات التنفيذية، وأنها لم تبت في بقية صلاحيات منصب رئيس الجمهورية وسلطته على الجيش والقوات المسلحة، بوصفه القائد العام للجيش، وأن شرط رحيل (الرئيس) الأسد غير واقعي، ويتعارض مع وثيقة جنيف أيضاً.

وهنا لابد من الإشارة أيضاً إلى مسائل أخرى ليست أقل أهمية، تتلخص في الإنجازات الميدانية الهامة، وربما المصيرية، التي حققتها سورية وجيشها الوطني، منذ التوصل إلى وثيقة جنيف الأولى حتى تاريخه، والتي تجلت في الانحسار والتراجع الميداني الكبير للمجموعات التكفيرية – الجهادية، مقابل انتقال سورية إلى وضعية المبادرة واستعادة سيطرتها المتواصلة على العديد من المناطق الهامة في ريف دمشق، وخاصة مناطق الغوطة الجنوبية والغربية وأرياف حلب وحمص.. كذلك في اشتداد الخلافات بين أطراف (المعارضات) وبخاصة الخارجية المرتبطة، مع تبايناتها وخلافاتها، وخاصة أطراف ورموز الائتلاف نفسه (اضطر إلى تأجيل عقد لقاءاته القيادية في إسطنبول، ثلاث مرات متتالية، خلال أقل من أسبوعين فقط)، ورغم توصله مؤخراً في لقائه الأخير قبل أسبوعين، مرغماً أو مضطراً، بسبب (الضغوط) المختلفة والارتباكات في صفوف مؤيديه، والإحراجات التي يواجهها أيضاً، إلى الموافقة (المشروطة) على حضور جنيف ،2 على أن يلحظ انتقال كامل للسلطة، وبضمنها صلاحيات الرئيس كنتيجة للمرحلة الانتقالية.. وهذا يتناقض أصلاً مع مواقف الغالبية الساحقة من الدول المنشغلة بالأزمة السورية، ومع وثيقة جنيف الأولى أيضاً، ومع مسألة الاستفتاء على نتائج مؤتمر جنيف.

ولا نغفل هنا التغيير التدريجي المتواصل في المواقف الدولية، التي باتت تعبر بجلاء وصراحة عن ضرورة الحوار والحل السياسي، بوصفه المخرج الوحيد للأزمة السورية وتداعياتها من جهة، وبضمنها (الحلفاء) و(الأصدقاء) التقليديون لواشنطن في القارة الأوربية خصوصاً من جهة ثانياً، وبضمنها التصريحات والإعلانات الرسمية (النظرية) الفرنسية على الأقل، المرفق بعضها بملاحظات و(شروط) غير منطقية وغير مقبولة أيضاً.

كما لا يُتجاهل أيضاً طرق أبواب سورية من قبل العديد من الدول التي اتخذت سابقاً في بداية الأزمة موقفاً سلبياً منها، لاعتبارات عديدة، وتتلخص في محاولات مباشرة للتواصل مع سورية، أو عبر العديد من الوسطاء! كذلك التباينات في صفوف الخارجية والإدارة الأمريكية حول استحالة الحل العسكري والتدخل الأجنبي، وتالياً ضرورة البحث مع الأطراف الأخرى عن سبل حل الأزمة السورية توافقياً.

روسيا التي وسعت مؤخراً دائرة اتصالاتها السورية أولاً، وبخاصة الطرف الحكومي الوطني وما يمثله، وقبل أي طرف سوري آخر، بوصفها الطرف الأساسي والحاسم في الحل المفترض والمنشود، شملت هذه الاتصالات أطرافاً ورموزاً عديدة مؤخراً من المعارضات الوطنية، ورموزاً من قادة (الائتلاف)، وزيارة بوغدانوف إلى إسطنبول ولقائه عدداً من قادة الائتلاف ودعوتهم لزيارة موسكو، بهدف البحث في الآراء والمواقف التي من شأنها إنجاح الحل السياسي، وإزالة العراقيل التي تعترضه، وفي هذا موقف روسي هام يفتح الباب والنقاش الجاد المفترض مع كل الوطنيين السوريين أولاً، ومع كل من له مصلحة جدية وحقة في إنهاء الأزمة وإغلاق ملفها أيضاً.. وأن الكرة باتت واضحة للجميع (أصدقاء) و(مناوئين) أنها في الملعب الآخر، أطرافاً ووكلاء وأدوات ودولاً محرجة أو مرتبكة، بسبب التطورات الميدانية السورية الإيجابية، والموقف الشعبي السوري بغالبيته الواسعة، من التغيرات الدولية الإيجابية المتسارعة والهامة والفاعلة أيضاً.

العدد 1107 - 22/5/2024