الفكر والعقاب

عندما أصرَّ التلميذ ابن المسؤول، على أن الفيل يطير كما قال والدهُ، لم يكن هناك خيار أمام أستاذه إلا أن يوافقه على مضض  بقوله: نعم، قد يطير الفيل ولكن لا أظنه يرتفع كثيراً.

هذا هو حال المفكر، الذي يعيش في وسواس الخوف من التهديد والإهانه النفسية أو الجسدية، عندما يعطي رأياً يخالف رأي السلطات بكل أنواعها، إن كانت إدارية، أو موروثات اجتماعية، أو معتقدات دينية.

 فيكون دائم الحذر من طرح رأيه الحقيقي والمنطقي، ويضطر للقبول والتفكير بأنصاف الآراء المواربة بين القناعة بالفكرة وعدم القناعة بها، لتحاشي أي أخطار قد تلحق به من الجهات الأقوى سيطرةً وسلطةً.

 هو الوسواس الذي يؤرق المفكر الفنان والشاعر والكاتب والرسام والعامل في كل حقول الفكر والثقافة، ويعيش في لحظات الخوف من التعرض للإهانة بأي شكل كالتوقيف والاعتقال، ومحاربته في لقمة عيشة وسلبه حقوقه الطبيعية في الحياة الكريمة.

نسمع بقصص العديد من المفكرين والكتاب والفنانين دفعوا الثمن غالياً، لأنهم قالوا للأعور أعور بعينه، ولم يجاملوا أحداً على حساب الحقيقة.

هذا ما حدث ويحدث دائماً بالشواهد والأسماء، لذلك يضطر أغلبية المفكرين أن يضعوا خطوطاً حمراً لأنفسهم وبأنفسهم، ويحرصون على عدم تجاوزها.

وعن حدود المنع على سبيل المثال، نجد أنه لا يمكن للمفكر التشكيك بعادات المجتمع وتقاليده، وخاصة تلك المأخوذة عن نصوص دينية، وإن كان ذلك المعتقد يميل نحو البدعة المتوارثة.

في حين يفترض أن تقتنع جميع السلطات بأن تبادل الأفكار الصحيحة، والتعبير بحرية، هو الطريق الصحيح الذي يؤدي إلى التخطيط الجيد، والبرمجة الناجحة، للنهوض والعمل بالشكل الصحيح في كل مجالات التطور، كما أن هذا النهج تكريس للإيجابيات وتلافٍ للسلبيات من أجل الارتقاء بالدولة والمجتمع إلى مرحلة أفضل.

إن وسائل الدعاية و الإعلام لأي سلطة، تحاول الإيحاء والإدعاء بأن حرية التعبير و الرأي متاحة ومضمونة ومحمية، وفي الوقت نفسه تضع الشروط والمعايير لهذه الحرية، فيجد المفكر نفسه محصوراً في زوايا ضيقة لا يمكن التعبير خارجها، ولا الابتعاد عنها.

والتهم جاهزة عندما يخالف المفكر المفهوم العام المتبع، فهو معارض أو زنديق أو هرطقي أو كافر، وقد يصل الأمر إلى درجة التخوين، واتهامه بالارتباط بالدسائس والمكائد الخارجية، ولكل من هذه التهم عقوبتها التي تجعل المثقف دائم الحذر ودائم الوسواس من إلصاقها به، فيقصر من مستوى تفكيره ويختصر مجال مجاهرته برأيه.

 في الواقع إن المجتمع الديني والسياسي، يعيش على فكرة معينة زمناً طويلاً، وعندما يبادر أحد المفكرين لإصلاح خلل ما في هذه الفكرة، يتهمه الجميع بأنه هو المختلُّ في تفكيره.

من المشاكل التي يعاني منها الفكر، أن تكون الصحافة، ودور الثقافة و النشر، وكل وسائل الإعلام، مشرعة الأبواب على مصراعيها لمفكري النصوص والآراء، الفارغة المحتوى والمعنى، وللمنافقين ممن يمجدون السياسات الراهنة، والمعتقدات الموروثة، وتغلق الأبواب نفسها، في وجه المفكرين المنتقدين لهذه السياسات والمعتقدات.

حتى في المجتمعات المتحررة سياسياً وعلمانياً، هناك بعض الخطوط الحمر، لا يمكن للمفكر تجاوزها، مثل فكرة معاداة السامية، التي سيطر بها الفكر الصهيوني على العالم الثقافي والسياسي بشكل كامل، ووضعت المحاكم عقوبات جاهزة، تعرض لها الكثير من المفكرين الكبار في العالم.

 في المفهوم السلطوي، المطلوب من المفكر والأديب والفنان، قبول الوضع السائد،، وعدم معارضته، بل العمل على ترويج سياساته ومفاهيمه المفروضة، وإن كان مضطراً، وعلى مضض، هي ذي الحكاية.

العدد 1107 - 22/5/2024