حين تغدو الحياة تمثيلية

يخلق الإنسان لنفسه صورة يتمترس خلفها، ويدير معاركه الوجودية من خلالها، فتكون له درعاً يقيه من السقوط في قلب التحديات والانكسارات. ومع ازدياد تشبثه بالصورة يغدو أسيرها؛ فإذا تصدعت انهار عالمه وتبعثر. وتكمن خطورتها عندئذ في غوايتها، إذ تستدرج الذات إلى فخ الوهم مما يجعلها عاجزة عن بلورة الهوية الحقيقية. وتتيح الرواية السينمائية إنشاء تلك المساحة بين الصورة والذات المتوارية، وتفعيلها درامياً ضمن مسارات غير متوقعة. كحالة الفيلم الأمريكيGone Girl) ) الذي قام بإخراجهDavid Fincher) ) ورشح لأربع جوائز غولدن غلوب.

تقدم شخصية البطلة إيمي نموذجاً فريداً لعقل متقد، يغزل أسطورة الطفلة المذهلة، التي تكبر لتصبح كاتبة قصص مشهورة. وخلف الصورة البراقة يتضخم الملل والضجر وتتكاثف شهوة البحث عن المتعة والإدهاش، وفي الوقت نفسه تتقلص المسافة بين السعادة ووهم الاستحواذ.

تتواتر المشاهد بسرعة وانسيابية عالية، لتضعنا في متاهة من الغرابة والتحديات، بداية بطريقة تعرّف إيمي على زوجها الوسيم نيك، وظهورها بشخصية المرأة الجميلة والذكية التي تثق تماماً في قدرتها على حشد الاهتمام والتعاطف الكلي المبني على الإعجاب. وصولاً إلى اختفائها المدروس عن منزل الزوجية بعد قيامها بنثر الأدلة التي تتكفل ببناء جريمة متكاملة الدوافع والأسباب والنتائج تضع الزوج في قفص الاتهام، اعتباراً بالدماء التي أسالتها من جسدها فوق الأرض، ثم مسحتها بإهمال لتشير إلى العنف الممارس ضدها، وصولاً إلى استغلال سذاجة جارتها الحامل لاختلاس عينة من بولها وإرسالها إلى المختبر كي تدعم روايتها المحكمة حول الزوجة الحبلى التي ينبذها زوجها المستهتر، الأمر الذي يكسبها التعاطف الجماهيري الكبير.

تظهر الحبكة الروائية للفيلم قدرة ممتازة على الإدهاش والجذب من خلال لعبة القلم والورقة وتحقيق الانفصال بين البطلة والكاتبة لإبراز الأنا المتضخمة توازياً مع سطوة الذكاء الذي يملي التحديات المتعاقبة في قالب استفزازي مقبول. وبذلك تطبق المصيدة على نيك من كل الجوانب ويصبح في مواجهة حكم الإعدام، مما يحول قصة الطفلة المذهلة إلى مشروع أسطورة. ولكن إيمي توقف مشروعها المتمثل بالانتحار حينما يستعين نيك بمحام بارع لتلميع صورته إعلامياً، وإظهاره بمظهر التائب الذي يعترف علناً بخيانته لزوجته المحبوبة مع مراهقة عابثة. وهنا تستثمر مجدداً الصورة الإعلامية للأسرة البرجوازية السعيدة، التي تخدم إيمي وصناع الرأي الأمريكي، فيتجدد الهياج الشعبي وتصرف الأنظار عن القضايا الحيوية في بنية المجتمع.

يطرح البناء المحكم للفيلم الروائي جملة من التساؤلات الأساسية عن مستقبل مؤسسة الزواج في منظور مجتمع الرفاه المادي ونوعية العلاقات التي تتطور في جنباته بين الشريكين وعلاقتها بديمومة السعادة الرومانسية. كما يلفت الانتباه إلى ضرورة المرونة الإيجابية في التعامل مع التحديات المصيرية. وهي صفة طوعتها إيمي لإحكام السيطرة على نيك وتحريكه كالدمية ليتلاءم مع صورتها ككاتبة مذهلة وزوجة سعيدة متألقة. كما فعلت مع شريكيها طومي وديزي السابقين، فأنهت الأول حين نشد الابتعاد عنها، فلفقت له تهمة الاغتصاب التي قيدته اجتماعياً عقداً كاملاً، بينما استدرجت الثاني الذي كان صديق المدرسة وقتلته بشناعة ثم لوثت جسدها بدمائه لتقوي حجتها أمام الإعلام بصفتها زوجة مختطفة هاربة من مغتصبها. وبذلك يفشل المحامي في إنقاذ نيك من ورطته التي جرتها عليه رغبته في طلب الطلاق في ذكرى زواجه الخامسة. ومثلت ربطة العنق أمام الإعلام إشارة إلى عودة الضحية إلى نير العش الزوجي السعيد. وهو نصر ينتزع إعجاب المحامي البارع واعترافه بقدرة إيمي على التلاعب بالعقول لتثبيت صورتها.

العدد 1105 - 01/5/2024