ما بين الجلاء والانتماء

بعزٍّ وخيلاء يسرد أجدادنا قصص التحرر والجلاء، بنشوة يتغنون بملاحم البطولة والوفاء.

لكن:

أي ذكرى لجلاء سيحتفل بها شبابنا هذه الأيام؟  أيُّ احتفال وقد باتت ذكرى من تاريخ لم يصنعوه، ومن مذكرات أجدادهم الخاصة بذلك الزمن الأجمل..؟  أيُّ فرح مزيّف، وقد باتوا ينشدون جلاء جوهرياً جديداً..؟  وأي درس، وأيُّ إرادة نضال سيتمثلونها في واقعهم المعاصر..؟  من ملحمة تحرير الوطن من براثن الاستعمار العثماني أو الفرنسي..؟ إنهم مأسورون ومشتتون يتصارعون أيديولوجياً ما بين فكر تقليدي إلغائي سلفي، لا يراعي طبيعة التطور الزمنية، وفكر يسرع ويتسارع نحو التحديث، ونظرة مشدودة إلى الأمام . ما بين فكر معرفي متحجّر، وسلطة مستبدة، وعقيدة وقيم اجتماعية أزلية الحقيقة، وبين فكر معرفي آخر، علمي ديناميكي محدِّث للقيم، ليس هناك حقيقة مطلقة من وجهة نظره.

وقد باتت أو تحولت المعركة الحقيقية على أرض الواقع- إلى حد ما- بين هذين الاتجاهين.

بكل الأسف والحسرة، يُصادق الشباب في هذه المرحلة على مدوّنات ملفّ مؤلم من يوميّاتهم، هو ملفّ تغيُّر أو اهتزاز مفاهيم البطولة والتضحية لديهم، حين قرروا أو انساقوا كي يساهموا في قضية تقرير مصير بلدهم ووجوده، من وجهة نظرهم. فقد أصبح يحسد أجداده، لأن معركتهم لم تلفّها الحيرة كما اليوم، بل كانت واضحة بيّنة مع المحتل الأجنبي، الأجداد هم الذين صنعوا  جلاء جليَّ الأطر والمكونات، أما  اليوم، فالمعركة هي مع ابن البلد، وربما صديق الدراسة أو اللعب و.. ربما الأخ.

ومن خلال نظرة أظن بأنها واقعية لا وهمية، فإن الاغتراب الفكري والاقتصادي والاجتماعي، ثبّت فكرة الهروب والانسلاخ عن الواقع، حين تزعزعت قناعة الشباب وإدراكهم، مفهوم انتمائهم للوطن واقعاً وتاريخاً. وقد تبدّلت وتفرّقت القيم والمصالح، وبات مستقبلهم في خبر كان، فقرروا بمفردهم، أو قرر الأهل، وحرصاً على حياتهم، تسفيرهم إلى أي بلد آمن، قبل أو بعد تخرّجهم من الجامعة، وأحياناً قبل الحصول على الثانوية العامة، وبأي سبيل كان، فهذا باع سيارته، وذاك بيته، وآخر سحب قرضاً من البنك، ومنهم من لم يحتج إلى ذلك كله. كما أن البعض من فئة المراهقة العمرية هاجروا قسراً إلى البلاد المجاورة أو مخيمات اللجوء وصاروا من فئة الشباب بعد امتداد عمر الأزمة، الأَوْلى في النهاية، هو الابتعاد عن مسببات الموت الكثيرة، والمتوقعة في كل لحظة.

تُرى، لو وضعنا في كفّتي الميزان مقوِّمات ومقتضيات الحربين: حرب الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، وحربنا اليوم مع كل القوى الظالمة والظلامية، فأيُّ دروس ونظريات من الماضي يطبّقها شباب اليوم على الحاضر ؟!! وما هي الأولويات التي عليهم تنسيقها لرسم معالم المستقبل؟ إنهم بين فكّي أكثر من كمّاشة؟!

أسئلة إجاباتها برسم المجهول، وشبابنا مقيدون برسم الدهشة والانتظار.

العدد 1105 - 01/5/2024