مصير المواطن بين الدعم ورفع الدعم..!

إذا كان مؤشر البوصلة يشير دوماً إلى الشمال المغناطيسي مهما حركناها وأينما كنّا شريطة أن نُبعِد عنها أي جسم معدني بإمكانه أن يحرفها، وبالتالي يسهل علينا تحديد الاتجاهات والسير على طريق واضح وصحيح، فإن مؤشر البوصلة للحكومة في أي دولة يجب أن يشير دوماً إلى المواطن ويرسم الطريق الواضح والصحيح للحفاظ على كرامة هذا المواطن وشخصيته وإنسانيته، خصوصاً إذا كان هذا المعتّر الذي يدعى المواطن قد ملّ من الصبر وفاقت قدرته على التحمل كل التوقعات.

قد يقول لنا قائل إن الحكومات السابقة – على علاتها – لم توفّر فرصة من شأنها الرقي بالواقع المعيشي لهذا المواطن إلاّ اتبعتها، ونحن أيضاً نقول إننا لا ننكر تلك المحاولات الخجولة التي ساهمت الدولة فيها بالتخفيف من معاناة المواطن ولكن دون التمييز بين من هم بحاجة إلى الدعم الحقيقي ومن هم لا يحتاجونه مطلقاً.

بين رفع الدعم وعدم رفعه يقف المواطن على مفترق طرق لا يعرف إلى أي اتجاه تسير عربة الدعم الحكومي لبعض السلع، ومن أهمها المشتقات النفطية وإلى أي اتجاه تشير البوصلة، وعلى أيّ جنب سينام بعد أن أربكت أحلامه الوعود التي سمعها خلال العقود الماضية. وللوقوف على حقيقة ما يشغل بال المواطن في هذه الأيام وما يربك تفكيره، كان لنا هذه الجولة في مناطق عديدة من طرطوس حيث التقينا عدداً من المواطنين الذين عبّروا عن خشيتهم الحقيقية من قرار كهذا إن لم يدرس دراسة دقيقة بحيث ينعكس رفع الدعم بشكل ايجابي عليهم:

السيد رجب محمد، مدير مدرسة، تحدث عن جملة قضايا ومنغصات سيعاني منها المواطن نتيجة قرار كهذا، ومن هذه المنغصات: زيادة الأعباء المترتبة على الفلاحين وذوي الدخل المحدود، وتدنّي في كميات المساحات المروية، وبالتالي نقص واضح وكبير في المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، إضافة إلى قيام مواطنين بهجوم شرس على الغابات والمساحات الحراجية لتعويض وقود التدفئة، وبالتالي نقص في مساحات الغابات، وزيادة في أجور النقل. مما يجعلنا نعود إلى ما قبل السبعينيات فيما يتعلق بالجانب التعليمي، وبالطبع دون أن نغفل الزيادة في أسعار السلع كافة، وبضمنها أسعار العقارات. ملخص الكلام أن أصحاب الرساميل استفادوا وحصلوا على الدعم كبقية المواطنين دون وجه حق. ومن قرار رفع الدعم، فيما لو حدث، سيستعيد هؤلاء أيضاً، وبالتالي ستزيد الأعباء على ذوي الدخل المحدود. أنا لست مع رفع الدعم بالمطلق عن ما يمس حاجة المواطن، حتى ولو رُفعت الرواتب والأجور، لأن هذه الزيادة لن تمس إلاّ شريحة معينة من المجتمع. ومادمنا نتحدث عن زيادة الرواتب فأنا شخصياً لي ملاحظات عديدة عليها، فمثلاً أسرة مكونة من خمسة موظفين، وبالتالي بات لدينا زيادة على خمس كتل. أمّا في أسرة كبيرة – كما يقال – حتى ولو كان فيها ثلاثة موظفين فإن الزيادة لا تغطي نفقات الأسرة. قولاً واحداً أنا لست ممن يؤيدون فكرة رفع الدعم.

في قرية الجروية التابعة لمنطقة صافيتا التقينا عدداً من المواطنين، الذين استغرب بعضهم قراراً كهذا في هذه الظروف، في حين كان لقسم منهم رأي آخر. فقد عبر السيد محمد أبو محسن عن عدم رضاه من سلوك البعض فيما يتعلق بالعلاقة مع الدولة، فالدولة التي تدعم الخبز على سبيل المثال لا يتورّع المواطن أن يشتري الخبز بكميات كبيرة إن أمكنه ذلك، لاستعماله علفاً للحيوانات بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف.. والدولة التي دعمت المشتقات النفطية كالمازوت والبنزين والغاز وغيره لم يكن البعض على قدر كاف من المسؤولية، إذ قاموا بتهريب هذه المادة إلى الدول المجاورة، وبالتالي راكموا العبء على الدولة، وحصدنا نحن النتيجة كما ترى. المواطن عليه أن يتحمل ويقف إلى جانب الدولة في أزمتها. علينا الابتعاد عن الكماليات في هذه الظروف.. الدولة ليس بإمكانها مراقبة الجميع، ولكن عليها أن تحاسب من يستغل ما تقدمه الدولة للمواطن بشكل حاسم وحازم. أنا أرى أن علينا في الوقت الحاضر أن نتحمل الدولة لأن العالم بأجمعه قد تكالب علينا.

السيد أبو علي، من باب توما، هجّرته العصابات الإجرامية من بيته، استغرب المقارنة بين رفع الدعم وتوفّر السلعة، وقال: هناك مافيات في الدولة تعمل على التهريب، والمواطن المسكين لا يمكن أن يقوم بتهريب أي سلعة لأنه غير محمي من أحد. ومادام لكل رب أسرة دفتر عائلة فيمكن للدولة أن تحدد لهذا المواطن ما يستهلكه في الشهر من مشتقات نفطية (أسطوانة غاز أو عدد من لترات المازوت وغير ذلك) وهذا ينطبق على الآليات بأنواعها، وأن تضبط عمليات التوزيع بشكل صحيح وصارم، وأن يُحاسب المتلاعبون. الدعم يجب أن يصل إلى من يستحقه، فمن غير الصحيح أن يحصل أصحاب الرساميل على الدعم.

أما فيما يتعلق بالتهريب فهذا يعود لأن بعض المتنفذين تربطهم علاقات مشبوهة مع أصحاب الكازيات، فيقوم هؤلاء باستجرار كميات كبيرة وتهريبها، في حين أنه لو أعطى كل من يستحق الدعم قسيمة مدعومة من الدولة يقوم بصرفها من أي كازية أو مؤسسة حكومية، تماماً كالبطاقات التموينية، فأعتقد أنه في هذه الحالة يكون الوضع أفضل. لو أعطينا أصحاب آليات النقل قسائم مدعومة أيضاً تبعاً للمسافات المقطوعة بين مركز الانطلاق والوصول، وحافظنا على الأجور، لكنا خففنا أيضاً عن المسافرين عبئاً إضافياً. من أراد أن يترفّه فليقم بشراء الوقود اللازم من حسابه الخاص.

السيدة هالا إبراهيم تحدثت عن رأيها فيما يتعلق برفع الدعم فقالت: أنا مع رفع الدعم لعدة أسباب، منها أن الخاسر الأكبر بالدعم هم الدولة والفلاحون المنتجون للقمح، والفئة المستفيدة من الدعم ليست الفئة المستحقة للدعم، بمعنى أنه لا يوجد مواطن عاجز عن دفع ثمن محترم لربطة الخبز، ولكن يوجد الكثير من الذين يستغلون الدعم للهدر والإضرار بالدولة. أضف إلى ذلك أن أحد الأسباب الرئيسية للأزمة في سورية هو الإجحاف بحق المزارعين على امتداد الوطن. وكنا نتمنى لو أن الدعم رفع قبل الأزمة لكانت البيئة الحاضنة لها (للأزمة) أقل بكثير. وهناك سبب آخر يتلخص في أنه بسبب الدعم للمواد الأساسية توجه المواطن لصرف دخله المحدود على كماليات تهدر له حياته وأموال الدولة (موبايلات – مشروبات – دخان!). وبرأيي البديل عن الدعم يكون بشكل عام بتخصيص هذا الدعم للأسر الفقيرة والمحتاجة.

السيد حسيب محمد صاحب محل جملة في الدريكيش تحدث عن الأثر السلبي لرفع الدعم عن بعض المشتقات النفطية والسلع الغذائية: نحن لسنا ضد هذه الفكرة بشرط إيجاد بدائل، أي أن تدعم الأسر الفقيرة، إضافة إلى ضرورة أن يكون هذا الدعم دعماً حقيقياً. يمكن رفع الأجور والرواتب للموظفين، وبهذا لن يتأثر الموظف. أما المواطن غير الموظف فكيف سيتحمل هذا؟!. هناك شرائح كبيرة من المجتمع لا تملك دخلاً كافياً، وهؤلاء هم الذين سيتأثرون بعملية رفع الدعم.. أنا مع رفع الدعم ليصبح مساوياً للأسعار في الدول المجاورة كي يتم القضاء على التهريب.

أما السيد محمد، موظف، فقد قال: أنا مع الدولة قولاً واحداً، ولديها الحق برفع الدعم،  لأن هناك من لا يستحق الدعم. الأموال التي ستجنيها الدولة من رفع الدعم ينبغي أن توزعها على الشرائح الفقيرة بشكل عادل، تماماً كالبطاقات التموينية. أمر آخر: يجب معاملة كل من يدخل الأراضي السورية ويستهلك وقوداً مهما كان نوعه بالعملة الصعبة، ويجب مراقبة كل السياح الوافدين والتعامل معهم أيضاً بالعملة الصعبة، إضافة إلى مراقبة دخولهم وخروجهم، لأن قسماً منهم جواسيس وعملاء. يجب أن تكون الأزمة قد علمتنا. أنا ضد دخول الأراضي السورية على الهوية فقط، يجب تأكيد موضوع جواز السفر.

السيدة وصال محمود – بنت البلد، قالت بأن قرار رفع الدعم لا يخدم المواطن بأي شكل من الأشكال، فالأسواق ملتهبة مع وجود الدعم، فكيف إذا رُفع هذا الدعم؟! من المؤكد أن السيارة التي تستهلك وقوداً من طرطوس إلى دمشق بمبلغ 5000 ليرة ويتقاضى سائقها حالياً مع وجود الدعم ثلاثين ألف ليرة سورية، سيتضاعف هذا المبلغ عدة مرات، فتخيل كيف ستكون الحال! المازوت لم يرتفع سعره حتى الآن، والناس يخزنون ويكدسون البضائع، فكيف إذا رفع الدعم؟ من المؤكد أن الفوضى العارمة ستكون هي النتيجة الحتمية لذلك. سيكون صاحب الكازية سيد، وموزّع الغاز سيّد، والتاجر سيّد، والمزارع سيد، ويختلط الحابل بالنابل.. الدولة تعدّ مواطنيها كالأولاد بالنسبة للأب والأم، ومن هم أحق بدعم الأب والأم أكثر من الأولاد؟! الدولة تتحمل والمواطن أيضاً يتحمل.. هناك فاسدون في هذا البلد، وعلى الدولة الوقوف بحزم في وجه هؤلاء، وعدم التساهل في محاسبتهم.. لدي اقتراح لا أعلم إن كان مقبولاً، ويتلخص في أن تقوم الدولة بإنشاء شركات للنقل تابعة لها وتقدم لآليات هذه الشركات وقوداً مدعوماً، لأن معظم المواد ارتفعت أسعارها بسبب أجور النقل.

عدد ممن التقيناهم من سائقي السرافيس العاملة على خط طرطوس الدريكيش، عبروا عن امتعاضهم من قرار رفع الدعم، وقالوا بأن الزيادة التي تضاعفت عدة مرات سواء فيما يتعلق بقطع الغيار أو أسعار الإطارات أو الزيوت وغيرها تكفي، ولا داعي لزيادة هذه الأعباء.

الباحث يوسف مصطفى يرى أن ربط كل شيء بارتفاع أسعار الدولار أمر غير صحيح وغير مقبول. هناك نحو 58%  من الشعب من الطبقة المتوسطة والفقيرة، ورفع الدعم سيضاعف معاناة هؤلاء. على الحكومة أن تتدرّج في رفع الأسعار، لأن هذا الارتفاع الحاد سيعكّر المزاج العام للمواطن وعلى مجمل أحاسيسه. موضوع البنزين يتعلق بمن يملك سيارة، وفيما يتعلق بالمازوت فأنا أرى أنه إذا حدث ارتفاع في مادة المازوت فإن شريحة كبيرة من المواطنين ستكون عاجزة عن تأمين الحد الأدنى من مستلزماتها المعيشية. إن القفز في رفع الأسعار، كما حدث بالنسبة لأسطوانة الغاز، هو أمر غير صحيح.. كثير من الإجراءات الاقتصادية التي حدثت في العالم بطريقة الصدمة كان لها أثر سلبي. أمر آخر يتعلق بأسعار المنتجات المحلية التي قفزت عبر لعبة الجملة والمفرق، والأمر يتأرجح بينهما. أنا أقول إن الخضار والفواكه من بندورة وخيار وبطاطا وسلق وفجل وبقدونس هو منتج محلي، ولا علاقة له بارتفاع الدولار.. موجة ربح واستقواء على الضعفاء والفقراء.. الدولة أقوى من فقرائها وعليها أن تدعمهم لا أن ترفع الدعم عنهم.. قد يكون هناك لعبة من بعض الصيارفة. على الدولة بمختلف مراكز المسؤولية فيها أن تضبط الأسعار وتراقب الأسواق بواسطة دورياتها المكثفة، وبالتعاون مع جمعيات المجتمع المدني. إن الارتفاعات في الأسعار تؤثر على ثقة المواطن وقناعاته ويقينيته في الدولة.

 

أخيراً

سواء رُفع الدعم أم لم يُرفع، فإن على الحكومة أن تجد الطريقة والوسيلة الأنجع والأفضل للحفاظ على كرامة المواطن، وتأمين كل مقومات العيش الكريم له، لأن كرامة أي دولة من كرامة أبنائها.

العدد 1105 - 01/5/2024