اللاقط الفكري

من الإشكالات التي قد لا ينتهي الحديث فيها لاستمرار نتائجها مع الزمن، مسألة وصف انتقال التأثير الفكري والثقافي، من مجتمع إلى آخر، هل هي عملية غزو أم عملية تبادل؟ وصار البعد بين مفهومي الغزو والتبادل، شاسعاً مترامي الأطراف، يتسع للكثير من التأويلات، والاجتهادات التي قد تكون منطقية صحيحة أحياناً، وغير منطقية في أحيان أخرى.

يدعو أنصار التبادل مع التأثير الفكري الخارجي، بالأخذ والعطاء بين كل الأطراف، والقبول بأفكار الآخر، وتحضير المجتمع للتغيير والحركة حسب ضرورة الأفكار الجديدة المتبادلة معه من الخارج.

أما أنصار وصف التأثير الخارجي بالغزو الفكري، فهم أنصار المجتمع المغلق دينياً وسياسياً وتراثياً وعقائدياً، الذين يعملون على إغلاق هذا المجتمع تماماً أمام أي فكر جديد وأي ثقافة قادمة من الخارج، ويعملون على مقاومة وممانعة أي شكل من أشكال اختراقها للمجتمع، ويتهمونها بحمل الإساءة والفساد ونقل السموم الثقافية والفكرية.

إذا كان جيل الشباب في أي مجتمع هو المتلقي الأكبر للثقافات الخارجية والتفاعل معها، وله الدور الأول والأساسي في إمكانية تغيير المجتمع، فقد عمدت كل الحكومات المغلقة سياسياً وإدارياً، على منع أغلب وسائل الاطلاع على الفكر الخارجي عنهم، فبدأت في مرحلة مبكرة  وقديمة بمنع دخول الكتب والمنشورات التي تحض على الثورات السياسية والاجتماعية، وحتى الثورات الفنية والثقافية، التي قد تكون جذوة تحت الجمر، تشعل مطالب ثورية في وقت لاحق. وكثير من الحكومات تمنع حتى الآن أجهزة الاتصال الحديثة، وشبكات النت، والمستقبلات التلفزيونية الفضائية، والأفلام والبرامج، وكل وسائل المعرفة، حتى لا يتأثر الناس بحركات التغيير والتجديد التي تحدث في المجتمعات المتقدمة حضارياً.

وقبل المنع السياسي للتواصل، كان المنع الديني، وكان الرفض الشديد لقبول أي تبادل ثقافي وفكري، مع الأفكار التي بدأت تسير بطريق العلمانية، فصار دعاة المنع لهذا الغزو يحذرون الشباب من السموم والحياة الماجنة التي يعيشها الشباب في المجتمعات الأخرى، والتي لا تتوافق مع تعليمات الدين والمفهوم العقائدي الموروث للمجتمع المحلي.

وكثرت الفتاوى وأساليب المنع لتبادل الثقافات والأفكار، وكثرت الاجتهادات في هذا المجال، مما نتج عنه وجود مجتمعات غير سوية التفكير، متأرجحة بضعف بين القبول والرفض للاندماج بالحضارة القادمة، التي تحاول طرق الأبواب بقوة وإرادة الحتمية التاريخية التي لا بد أن تحدث.

إن الشعوب ضعيفة التأثير والحضارة، تعتبر التبادل الفكري نوعاً من الغزو، بسبب عدم وجود شيء عندها للمبادلة، وهي عاجزة عن تقديم شيء للمجتمعات الأخرى، بل على العكس تخسر أشياء من التراث الموروث الخاطئ أساساً الذي بني المجتمع الضعيف عليه.

 وبكلمة أخيرة، الشباب هم العقل المحرك للبحث في هذا الموضوع، وهم حتماً سيكون لهم المستقبل، والشباب العربي سيكون لهم الخيار، لابد ومهما كانت الأزمة التي تحدث اليوم، قد ولدت عنها أزمات هجينة بسبب اختراق أفكار هدامة للمجتمع، لا بد أن يجد الشباب الطريق السوي الصحيح، ليكون المستقبل صياغة شكل جميل من التعاون بين الأفكار والثقافات المختلفة البناءة للشعوب والمجتمعات الأممية، دون أن نسمي هذا التعاون غزواً من أحد، فالإنسان هو نفسه أينما كان ومهما اعتنق من أفكار.

العدد 1105 - 01/5/2024