ضريبة العزف المنفرد

تكبر الأمنيات الصغيرة لتغدو آمالاً كبيرة. تنحني النفوس تحت وطأتها، فتكدّ الأبدان طلبا للمآثر العظيمة. عندئذ يعلو صوت المعلم موقظا من غفلة الثقة الخادعة، ويبان فضله على أقرانه من التائهين الذين يذكون جذوة الخضوع عبر أطواق التقليد. وتلك هي حال اندورmiles teller) ) بطل الفيلم الأمريكي whiplash))، الذي ثابر وكدح حتى نزفت اصابعه ليصنع مأثرته.

يبدأ الفيلم الذي تحتل الموسيقى الجميلة اجزاء واسعة منه، بعزف منفرد للطبال المبتدئ آندرو، وينتهي به بعد أن يشتعل إبداعه على المسرح أثناء مهرجان الجاز. وخلوة التدريب لمتدرب السنة الأولى التي يقتحمها مايسترو يدعى فليتشر J. K. Simmons))، ينقّب باستمرار عن الكفاءات الجديدة، سرعان ما تتحول إلى علاقة متوترة بين تلميذ ومعلم، قوامها الاستفزاز والترهيب. فبعد فخ الأسئلة التقليدية، يطلب منه مضاعفة الإيقاع، لمعاينة الذروة التي يمكنه الوصول إليها، في إشارة إلى الفرق الكبير بين المجتهد والمبدع.. فالأول يثابر على التقليد، بينما يتجاوز الثاني بطموحه الخيارات المتروكة إلى اجتراح المعجزة.    

ببساطة شديدة وبحوار محدود يعرّف المخرج والكاتبDamien Chazelle) ) مفردات الحيز الحياتي الذي يشغله بطله، من خلال وقفة هامشية بين فليتشر وآندور، تحدد للمايسترو نقاط ضعف طالبه. فهو ابن وحيد لمدرّس هجرته زوجته وتركته ليربي طفله بمفرده، مما جعله ملتفا بقوة حول شغفه الموسيقي، لدرجة التضحية بحياته الخاصة. ويبدو الموقف في صالة السينما لصيقا بالفكرة حين يجلس بجوار والده ويتناول حبوب الذرة/البوشار دون الزبيب، كإيحاء دقيق بهاجس الاستحواذ الذي يلون حياته بمنظور محدد للحياة.   

وفي جولة قصيرة يظهر محدودية أفق مدرس تقليدي للصف الأول، ويظهر مقدار الفوضى، لحظة اقتحام فليتشر المكان بصفاقة مسرحية، ليختبر الطلاب باستعراضية، قبل أن يختار آندور كطبال مساعد في فرقته الموسيقية المنتخبة لتمثيل المعهد الموسيقي (شافير). ويكون درسه التمهيدي هو تحطيم الإرادة بجعله ينتظر ثلاث ساعات قبل حضور الطلاب. أما الدرس التالي فيكون طرد طالب متردد غير واثق من إلمامه بالنغمة الموسيقية المطلوبة، لأن الجهل هو أسوأ الأخطاء. وحين ينتشي آندور بالإطراء الذي يظنه تشجيعاً، يباغته بالقسوة المفرطة والإهانة الجارحة دافعاً إياه ليتدرب بجد طوال شهر كامل، قبل حلول موعد الحفلة السنوية.

يدرك آندور جيداً أن المفتاح هو الهدوء والصبر، فيتماهى مع آلاف المحاولات المتعثرة، لينجح في امتطاء الموجة أخيراً بدلاً عن الطبال الأساسي ويصبح أصغر عازف في أشهر فرقة تعزف للبطولات. لكن آماله تتحطم حين يتحداه فليتشر فيتعرض إلى حادث سير، ويصل إلى مكان الحفل مدمى الرأس وعاجزاً عن أداء العزف بالشكل المطلوب، فيطرد من الفرقة وينتهي مستقبله الموسيقي.

كان فليتشر يستنزف طلابه بحجة صنع المعجزات، فيضعه انتحار كايسي تحت وطأة اليأس والتوتر أمام المساءلة القانونية، ويساهم آندور بأقواله في دعم القضية فيعزل من منصبه. وبعد مضي عدة شهور يلتقيان مجدداً في بار، فتسنح الفرصة لفليتشر بالانتقام. فيوجه دعوة لآندور للعزف في حفل افتتاح مهرجان الجاز، وبدلاً من الانسحاب عند اكتشاف غياب المعزوفة، يتحداه ويعزف منفرداً ويعطي لباقي الفرقة إيعازاً بالمواكبة. ثم يختم بعزف منفرد متألق ينثر الدماء فوق الطبل. 

المشروع الذي بدأه المخرج الشاب كفيلم قصير، تحول بالمثابرة إلى منافس قوي في مسابقات جوائز الأوسكار، لينال Simmons جائزة أفضل ممثل مساعد. وربما هو تأكيد على أن محاربة الرضا عن الذات قد تلقي بالنفس في احضان المأساة. لكن النتاج العادي المثمن بالكلمة التقليدية: عمل جيد، هو حتماً تمكين لفرض التسطح في أنماط التفكير..

العدد 1105 - 01/5/2024