الغزو الفكري.. وأثره على التواصل الاجتماعي

نبدأ بفكرة التكنولوجيا وارتباطها الوثيق بتطور وسائل الاتصال المتعددة بأنواعها المختلفة – إن كانت سمعية أو بصرية – وإن تفوقت إحداها على الأخرى في جذب الناس، وتلبية احتياجاتهم في قنص الخبر والوصول إليه. ففي الزمن القديم او ما يسمى بالعصر الماضي الذي كانت إحدى صوره المحفورة في الذاكرة، تجمع الأشخاص حول المذياع وانتظار آخر نشرة إخبارية-  لهم فيها متعة لا توصف، بالرغم من عدم إمكانية تغطية جميع أخبار العالم، وعدم درايتهم بما يحيط حولهم بنسبة مئة بالمئة.

تطورت بعد ذلك هذه الوسيلة لتتعدى حدود السمع، وتجعل حاسة البصر هي الأكثر متعة وشداً للعالم المحيط، لنقل مستجدات العصر بالصوت والصورة، ليغطي الأخبار الفنية والاجتماعية والسياسية بالبث المباشر، أو اتباع آلية التسجيل.

وبالرغم من هذه الوسائل وتعقيدها – في ذلك الوقت – على الفكر، لم تمنع التواصل الاجتماعي الذي يعد من أهم المحاور والوسائل لتقوية العلاقة بين البشر، بل كانت تقوي علاقتهم أكثر في تجمعهم لحضور برنامج محدد والنقاش حوله، وانتظار موعد حضوره.

بدأت هذه الأدوات تتعدد وتتطور بعد ذلك أكثر فأكثر، من قنوات فضائية وأجهزة الهاتف المحمول، والنت، الذي أصبح من أخطر الوسائل التي ألغت التواصل بلغة الجسد مع الآخر، لتدخل صاحبها في عالم الصمت، وعالم الصفحات والمواقع الالكترونية، لتغدو الفكرة والمعلومة فقط تصل كتابةً الى الآخر في الثانية ذاتها.

أصبحت هذه المواقع تنمّي يوماً بعد يوم فكرة الاستغناء عن المحيط الاجتماعي، ليصبح كل فرد أسيراً لجهاز الكمبيوتر وهاتفه المحمول، فقد يجلس العديد من الساعات أمام هذه الآلة، لتأخذه لمكان بعيد يعيش فيه حياة كاملة، ليستمر في انبهاره وتبني أفكاره من قبل أناس لربما لن يراهم أبداً في يوم من الأيام، لا ينطق حرفاً سوى بأفكار تأخذه ليترجمها لحروف يرسلها إلى من يتواصل معه.

لقد حدث الانجراف وراء هذه الوسائل التي أطلق عليها تسميه وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت الصورة المطلقة تهدد مجتمعاً بأكمله، كمن يسمح لعدوِ أن يدخل بيته ويسكن معه ويغزو فكره، حتى يكاد يلغي العديد من أفكاره، وينشدّ إلى فكرة يومية هي الاهتمام بمنشور نزل على صفحة الكترونية، دون أن يدرك مدى صحته من عدمها، لقد سمح أن يستقر في ذهنه بكل بساطة، ويلغي مدى حاجته للتواصل مع المحيط ومع الذات، والاقتصار فقط على العالم الافتراضي الذي سكن به، والذي كان له الحصة الأكبر في نشوب حروب بين الدول اليوم، ودور كبير في انتقالها من دولة إلى أخرى، وتأثرها بانتقال الأحداث بالسرعة الفائقة، فكان للمواقع الاجتماعية دور حقيقي في قيام الثورات، حيث كان لها دور أساسي في التعبير عن الرأي، ليصبح لكل فرد إمكانية الاطلاع على ما يجري من حوله دون انتظار الصحف والوسائل الرسمية لإذاعة ما كانو يريدون إذاعته.

وبالرغم من كل ذلك، لا يمكننا في هذا السباق توجيه إصبع الاتهام ككل إلى هذه المواقع، فالنفوس قد سمحت منذ زمن بدخول أزمة الحرب إليها، وهاهي اليوم تعود وتنطلق بأسلوب أقوى من ذي قبل.

توجهت بالسؤال إلى السيد نضال الشكل (باحث في مجال تربية الطفل) لمعرفة رأيه في هذا الموضوع، فقال:

ننجح بتقييم واقعي لهذا الأثر، علينا أولاً أن نقف عند كلمة غزو، هل هو غزو فعلاً بالمعنى الصحيح للكلمة..؟ أعتقد أن الغزو يكون قسرياً – لذلك أفضل استخدام تعبير إغواء فكري- والإغواء يستقطب عادة ذوي الميول، لو كنا محصنين بمشاعر ثقة بالنفس والثقة بثقافتنا المجتمعية، لما انجرفنا في تيارات الزيف الاجتماعي الذي تتيحه مثل هذه المواقع، وهذا التحصين لا يبنى سريعاً لمواجهة خطر ظهورها شبه المفاجئ، وإنما يتم بناؤه في سياق بناء شخصياتنا (أي منذ بداية طفولتنا).

العدد 1105 - 01/5/2024