إنه أكثر من حاجة… هو شعور بالمسؤولية

اعتاد شبابنا في مراحل ما قبل الأزمة أن يعيشوا حياتهم بترتيبها الطبيعي غالباً، فيبدؤون دراستهم من الابتدائية حتى تخرجهم من معاهدهم وجامعاتهم، ومن ثم يتجهون نحو مضمار العمل.

 وهنا أقول غالبيتهم وليس جميعهم، فمنهم من يبدأ العمل مبكراً جداً بسبب سوء الأحوال المادية في العائلة، فإما يكملون حياتهم الدراسية أو لا يكملونها. وأما من كان لا يعمل، فقد كانت الحياة لديه أبسط بكثير مما نحن عليه الآن، فالأسعار سابقاً كانت ضمن الاستطاعة نوعاً ما، ليس فقط كلباسٍ أو طعام، بل أيضاً ككتبٍ ومحاضراتٍ وأدواتٍ دراسية مهما كانت.

ارتفاع الأسعار هذا، وسوء الحالة الاقتصادية للبلد خلال الأزمة، جعل الشباب يفكرون بضرورة البدء في العمل مع دراستهم إن كانوا يرغبون بتلقي العلم في هذه الظروف، ليسدوا احتياجاتهم الدراسية وأقساطهم مهما كانت.

كنا نرى الشاب أو الصبية لا يقبلون العمل في مطعمٍ أو في مجال المبيعات مثلاً إذا كانوا جامعيين، طبعاً كنا نرى منهم الكثير لكن دون شهادات يحملونها، أما الآن فنجدهم يوزعون وقتهم بما يناسب أي عملٍ كان لكي يستطيعوا اللحاق بركب سوء الحال.

تقول تمارة، وهي صبيةٌ في العشرين من عمرها، تعمل في مول بأنها تدرس في كلية الاقتصاد، تعمل ككاشيير (محاسبة للزبائن) لتستفيد من العمل من عدة نواحٍ، مع الناس على تنوعاتهم، والعمل في مجال الأرقام والإدخالات الذي تبدأ به الآن جعلها تبني سيرتها الذاتية التي ستؤهلها لاحقاً للعمل في مكان آخر، وأخيراً وأهم الأسباب هي سوء الأحوال المادية لدى عائلتها وعدم قدرتهم على تلبية احتياجاتها الجامعية من محاضرات وكتب، وحتى احتياجاتها الشخصية كأنثى وصبية جامعية.

سامر، الشاب الأكبر في عائلته، أخبرني عن قراره الذي اتخذه العام الماضي بإيقاف دراسته لمدة سنة حالياً في كلية الإعلام، وذلك بسبب التزامه بمساعدة والده وإعالة العائلة المكونة من خمسة أولاد إضافة للوالدين. قرر سامر أن يوقف دراسته ويبدأ بالعمل في مطعمٍ يلبّي طلبات الزبائن، إضافة إلى محاولته الكتابة بعدة مواقع وصحف، على الرغم من أن الكتابة كما قال ليس لها مردود جيد هنا، لكنه يريد الاستمرار في دراسته بهذه الطريقة. وأما عن المطعم فهو المكان الذي استطاع إيجاد عمل فيه بعد بحثٍ طويل.

أما رامي من كلية الهندسة المعمارية، فقال كما قال غيره بأن الكتب والمحاضرات، إضافة للأدوات والمواد التي يستخدمونها في الجامعة، تُضاهي تكلفتها تكاليف أسرة كاملة، بسبب محبته لدراسته وعشقه لها، فهو لن يتركها مهما كلفه الأمر، رغم الجهد الكبير الذي يبذله، فإضافة إلى المشاريع المطلوبة منه في الجامعة، وللفحوصات والاختبارات والتحضير لها، يعمل الآن في تدريب الطلاب الجدد على المشاريع، وإفهامهم لأمورٍ ومواد معينة، وهذا التدريس والتدريب مأجور طبعاً، وبالتالي يستطيع تأمين متطلبات دراسته.

وأمثال أولئك الطلاب كثيرون الآن في الوضع الراهن، إذ تجد الآن شبابنا بدؤوا يدركون ما معنى المال، وما أهمية العمل، فالعمل يبني إنساناً وعلماً وبيتاً وفكراً.

الجميل في الأمر أنهم لا يؤطرون أنفسهم فقط في أمورٍ معينة، بل بدأوا يبتكرون حلولاً جديدة، فإبراهيم الذي يدرس هندسة زراعية صار يقوم بزراعة حديقته، وبدأ ببيع محاصيلها الموسمية للناس من جيرانٍ وأهلٍ وأقرباء بشكلٍ مباشر، فيستفيدون هم من نظافة الثمار من جهة، وأنها أرخص من السوق من جهة أخرى، كما يستفيد هو بتأمين مؤنة أسرته، ومن أرباحه التي يجنيها من هذا العمل، إضافةً إلى أنها عملُ تطبيقي في مجال دراسته.

هي روحٌ شبابيّة متجددة، فيها من المسؤولية والمحبة والعطاء الكثير، فهم يديرون أمورهم وأمور عائلاتهم من جهة، ويكملون دراستهم من جهةٍ ثانية. فلا هم مشكلة في المنزل، ولا هم مقصرون في علمهم.

كم نرجو أن يزدهر الشاب السوري ويتعالى على الظروف السياسية الراهنة، وعن التفرقة الدينية، والتراجع الثقافي، متجهاً نحو التطور والعلم والعمل والإبداع، نحو الابتكار، نحو أن يكون منتجاً لا مستهلكاً، ومن هنا يبدأ في سد احتياجات السوق السورية دون العودة للاستيراد من الخارج، بل يقوى ويكبر ليكون يوماً ما مصدّراً للدول المجاورة وأبعد، وأن يكون مساهماً ليس في إعالة نفسه فقط، بل في النهوض باقتصاد بلده العريق، بلد العلم والتجارة والحضارة، سورية.

العدد 1105 - 01/5/2024