رحيل الباحثة وعالمة الاجتماع المعروفة فاطمة المرنيسي
في أوائل شهر كانون الأول توفيت الباحثة المغربية فاطمة المرنيسي، عن عمر ناهز 75 عاماً، بعد صراع طويل مع المرض في أيامها الأخيرة.
يشكل رحيل عالمة الاجتماع النشيطة والشهيرة خسارة كبيرة للبحث السوسيولوجي والأنتربولوجي (الدراسة العلمية للإنسان، والحضارات والمجتمعات البشرية).. وكذلك للكتابات النسوية عموماً، لأنها باحثة في شؤون المرأة بامتياز. وقد تُرجمت كتبها إلى العديد من اللغات العالمية، واهتمت الراحلة في كتاباتها بـ (الإسلام والمرأة)، وتحليل تطور الفكر الإسلامي، والتطورات الحديثة، وبالموازاة مع عملها في الكتابة، قادت فاطمة كفاحاً مريراً في إطار المجتمع المدني، من أجل المساواة وحقوق المرأة، فقد ساهمت في تأسيس منظمات المجتمع المدني (القوافل).
ولدت فاطمة المرنيسي عام 1940 في عائلة محافظة في مدينة فاس المغربية، وقد سجلها أبوها في أوائل المدارس العربية التابعة للحركة الوطنية لكيلا تدرس في مدارس فرنسا الاستعمارية آنذاك.. فتابعت دراستها في الرباط، وبعد تخرجها اتجهت إلى فرنسا ثم الولايات المتحدة الأمريكية، حيث نالت شهادة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية. وفي الثمانينيات أصبحت أستاذة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الرباط.
كانت ظاهرة (الحريم) المنتشرة في الرباط وفي أنحاء العالم العربي قد أثرت فيها كثيراً، فانطلقت للنضال من أجل تنوير المرأة، مستخدمة ما كدسته من علوم ومعارف، لتمكينها وتحريرها من الوجوم والقلق الذي يسيطر عليها، مركزة على العوامل الاجتماعية والثقافية التي أوصلت المرأة العربية، وخاصة المسلمة إلى الوضع المتردّي جداً.
(وشهرزاد ليست مغربية.. ومن المفروض ألا تكون عربية).. (شهرزاد) عنوان لأحد كتبها، عنوان من ضمن عناوين أخرى تعلن من تلقاء نفسها عن ملامح اختارتها من داخل (قارة علم الاجتماع) لأن تكون في صف المرأة تكافح في صف بنات جنسها معهن ومن أجلهن ضد ثقافة الحريم السائدة من البحر إلى البحر.
إن الانتماء إلى موقع الدفاع هذا في مجتمع فائق الذكورية، لابد أن يكون له ثمن يؤديه المرء، تهميشاً وتبخيساً ومنعاً وهدراً للدم، أو في أبسط الحالات حقداً أعمى من أطراف جاهلة مستبدة.. وعندما كان سيف التهميش مسلطاً عليها وعلى أفكارها، شعرت فاطمة أنه على كل سوسيولوجي أن يبتكر سوسيولوجاه (كما قال أحد علماء الاجتماع سابقاً) باتجاه تجذير الممارسة السوسيولوجية، وهو النزول إلى الميدان، حينئذ منحت الكلمة أو الفكرة لنساء في الظل، لأصوات من الهامش، من القرية والموقف والعمل والرصيف والبيوت، ولمواطنات من الدرجة الثانية. لم يُسألن أبداً عما يعتمل في أعماقهن وما يرغبن أو لا يرغبن فيه، حينئذ اكتشفت فاطمة حياة أخرى جديرة بالتأمل والتحليل السوسيولوجي، وفي عام 1991 قرأنا حصيلة هذه المقابلات.
في كتاب موسوم بـ(المغرب عبر نسائه)، استنتاجات رائعة عمّا يختلج في عقول النساء وقلوبهن من مشاعر عميقة لم تكن ظاهرة للعيان، يُخنق الإبداع عند المرأة وتبقى أسيرة الجهل والتخلف والبؤس، ولكن ما يجعل المرء ينتشي أخيراً ويتحرر من آلام (ضريبة النجاح) هو الاعتراف بصيغته العالمية ولو جاءت متأخرة ومن توقيع الآخر.. ففي عام 2003 أتى هذا الاعتراف من الضفة الأخرى في صيغة جائزة (أميرة إستورياس الإسبانية للآداب)، التي أحرزتها فاطمة مناصفة مع الكاتبة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهذه أهم جائزة تمنحها إسبانيا، وهي من أهم الجوائز في أوربا والعالم تمنح لأصحاب الإنجازات العلمية الذين لهم تأثير في عمق مجتمعاتهم. ولم تكن الجائزة الإسبانية الرفيعة إلا إيذاناً بموسم الاعتراف العالمي. ففي السنة التالية 2004 حصلت المرنيسي على جائزة (أراسموسا) الهولندية مشاركة بينها وبين عبد الكريم سوروش الإيراني، وصادق جلال العظم المفكر السوري الكبير، وكان محورالجائزة (الدين والحداثة).
ويمكن القول إن سنوات (2003-2004) كانت بمثابة تتويج عالمي بالنسبة للمرنيسي، فبعد أن نالت الجائزتين الكبيرتين الإسبانية والهولندية، جرى اختيارها من طرف رئيس المفوضية الأوربية رومانو برودي لعضوية (فريق الحكماء للحوار بين الشعوب والثقافات)، إلى جانب كل من أمبيرتو إيكو، وخوان ديشا نيكولاس، وأحمد كمال وآخرين، وذلك من أجل النظر في مستقبل العلاقات الأوربية المتوسطية.
إن تفكير المرنيسي في قضايا المرأة كما يلاحظ من كتاباتها له طابع احتجاج علمي على القراءات والكتابات التي لا تمثل المرأة ما بين المحيط والخليج إلا كحجاب وحريم وتحريم، فيما تاريخ المرأة وواقعها أكبر بكثير من هذه النظرة الاختزالية.. فالنساء في العالم العربي برأيها (هن وقود لكثير من التداعيات السلبية في غالب القضايا المعاصرة، والمرأة طرف المعادلة الخاسر دائماً بالرغم من التركة الأخلاقية الغابرة للمجتمعات العربية والإسلامية).
ونلاحظ أن كل ما كتبته فاطمة يؤكد أنه لن يولد المجتمع العربي ولن يكون مجتمع معرفة يتكيف مع المجرات ودقائق التقنية الحديثة، ما لم يتح للمرأة أن تتعلم وتشارك في صنع القرار، وتنسج أفكارها حول شبكات البث الإلكتروني مثلما كانت الجدات تحبك بتلقائية آلاف الأزهار الهندسية فوق السجاجيد.
من مؤلفات فاطمة المرنيسي وكتاباتها وتصريحاتها نرى أن السوسيولوجيا مغربياً تعاني من إشكال التداول، فقليلة هي الأعمال التي تجد طريقها إلى النشر، وإن نشرت فإن النقاش حولها يبقى محددواً ومحصوراً في أضيق الحدود.. لكن أعمال المرنيسي لم تعان فقط من محدودية التداول، بل تعرضت أيضاً للمنع، ومن ضمن أعمالها (الحريم السياسي) عام 1987 و(سلطات منسيات) ،1990 و(شهرزاد ترحل إلى الغرب) ،1991 و(الخوف من الحداثة) و(الإسلام والديمقراطية) ،1992 و(أحلام نساء) ،1996 ومؤلفات أخرى، إضافة إلى مثول فاطمة الكثير من المرات أمام المحاكم المغربية بسبب آرائها.
بدءاً من أوائل السبعينيات تخلت فاطمة تدريجياً عن نوادي هؤلاء (المناضلات) اللاتي يحمّلنها ما لا طاقة لها به، ويقوّلنها ما لم تقله أبداً، معلنة انشغالها بالأدب وتدعيم المبادرات الميدانية في حدود المتاح وقتاً وإمكانات.. ولكن بالرغم من المسافة الموضوعية التي اتخذتها المرنيسي تجاه الحركة النسائية، فإن مناضلاتها يواصلن الاغتراف من معينها الفكري ويوظفنه في بناء طروح نوعية لمجابهة قيم المجتمع الذكوري وتخلف المرأة واضطهادها. ورغم انحيازها التام والمطلق لقضية المرأة، فإن فاطمة المرنيسي لم تأخذ موقفاً متجنياً ضد الرجل، فكانت موضوعية إلى أبعد الحدود في أن الرجل والمرأة يشكلان جوهر الحياة وكينونتها، إذا توفر لهما الوعي والتربية والمناخ الاجتماعي السليم.
وأخيراً، يُذكر أن العالمة والباحثة فاطمة المرنيسي كانت مجلة (ماري كلير) الفرنسية و(الغارديان) البريطانية، وكذلك مجلة (آرابيان بيزنس) قد صنفتها في عام 2012 واحدة من المناضلات المئة اللاتي يحركن العالم، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة.
تحية لروح فاطمة المرنيسي الطاهرة، ستبقى ذكراها خالدة في نفوس الناس الشرفاء، وسيبقى إنتاجها الفكري والاجتماعي مرجعاً أساسياً غاية في الأهمية لتحرير المرأة.