مع انعقاد جنيف2… وقف نزيف الدم أولاً

أخيراً، وبعد أكثر من نصف عام على (تفاهم) موسكو الروسي- الأمريكي حول عقد مؤتمر جنيف ،2 شهد نقاشات واتصالات وقمماً ثنائية وجماعية قارية ودولية أيضاً، وبعد مماطلات وتأجيلات عديدة، أظهرت بمجموعها حجم الإرباكات والإحراجات التي عصفت بالدول (الإقليمية) و(الدولية) المنشغلة سلباً بالأزمة السورية، افتُتح المؤتمر في 22 كانون الثاني، في مدينة مونترو السويسرية، تنفيذاً لقرار رسمي صادر عن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون.

ودون (الخوض) حالياً في أسباب المماطلة والتأجيل المتكرر، على أهمية ذلك، التي عبرت عن رفض العديد من هذه الدول عقد المؤتمر، أو امتناع عدد آخر منها، وموافقة البعض على عقده (إقراراً أو اضطراراً)، وهي بمجموعها مؤشر شديد الوضوح على الفشل الذريع لمشاريع هذه الدول وخططها، التي كانت مطروحة سابقاً (تغيير خارجي إرادوي، تدخل عسكري.. إلخ). كما أن عقده يؤكد سياسة غاية في الأهمية، عنوانها (التفاهم) والبحث عن حلول سياسية للأزمة السورية، بعد صمود سورية نحو ثلاث سنوات أولاً (وهذا ما كان غير متوقع غربياً وإقليمياً على الأقل)، وانتشار واسع للتطرف والعصابات التكفيرية الإرهابية ثانياً، وارتدادات الأزمة السورية على دول الجوار السوري وغيره تطرفاً وتخريباً ثالثاً.. فضلاً عن الخشية ومخاوف الكثير من الدول الغربية نفسها، وبضمنها الولايات المتحدة، من انعكاسات اتساع حالة التطرف هذه، وصولاً إلى هذه البلدان نفسها.

في مقابل ذلك برز الإصرار الروسي، وما يمثله دولياً، على عقد هذا المؤتمر، بوصفه مدخلاً لحل الأزمة السورية عبر الحوار والحل السياسي، واتهام الولايات المتحدة رسمياً، في أكثر من مناسبة، بالمماطلة، أو عدم (القدرة) على ضبط مواقف حلفائها، فضلاً عن تساؤل موسكو مراراً حول قدرة واشنطن على (ضبضبة) أوضاع (المعارضات)، وبخاصة الخارجية المرتبطة بالولايات المتحدة وأدواتها أولاً.

المؤتمر الذي شاركت في افتتاحه 40 دولة ومنظمات إقليمية ودولية (أضيفت فجأة 10 دول بضغط أمريكي، بهدف استكمال الجوقة المعادية لسورية في هذا المؤتمر)، استبعدت منه إيران قبل بدء المؤتمر بساعات، بعد أن دعيت إليه رسمياً! في حادثة غير مسبوقة دبلوماسياً وسياسياً.

ورغم تصريحات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، ربما الاضطرارية، التي مهدت لعقد هذا المؤتمر، وبضمنها أسباب ومصالح أمريكية صرفة، فإن المستغرب في مؤتمر جنيف تمثل في اللهجة التصعيدية التي تضمنتها كلمة كيري، التي يشير العديد من المراقبين إلى أنها تأكيد على طبيعة السياسة الأمريكية (التقليدية) التي تحاول ما أمكنها ذلك، التملص حتى من أسس تفاهم موسكو أخلاقياً وسياسياً من جهة، وأنها مجاملة و(برطلة) للممتنعين أو المضطرين للمشاركة في المؤتمر من جهة ثانية. وفي المحصلة فإن هذه المداخلة رد عليها رئيس الوفد السوري وليد المعلم، موجهاً كلامه إلى كيري مباشرة بقوله: (إن تحديد طبيعة النظام السوري واختيار رئيسه، هو خيار الشعب السوري وحده، ولا يحق لأحد في العالم التدخل في هذا الشأن السوري السيادي).. كما هو الحال في أية دولة حريصة على سيادتها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

مداخلة الوفد السوري التي وصفها الكثيرون بالمرنة والمتزنة والحريصة في الوقت نفسه على نجاح المؤتمر، كمدخل لحل الأزمة، استناداً إلى توجيهات الرئيس الأسد للوفد المفاوض قبيل مغادرته إلى جنيف، أكدت أوّليات الحل للأزمة، بدءاً من محاربة الإرهاب والتطرف وتجفيف منابعه، ووقف الدعم لهذه العصابات، إلى وقف التدخل في الشؤون الداخلية السورية، مروراً بالإقرار العملي الإقليمي والدولي بالحل السياسي للأزمة السورية وضروراته واستحقاقاته، وهي نقاط تضمنت بمجموعها الواقعية- المبدئية، والتعبير عن الشعور بالمسؤولية الوطنية، إضافة إلى البراغماتية التي تضمنتها مواقف سورية، تباعاً، تجاه المبادرات العديدة، الحسنة أو السيئة النية، وغيرها (مبادرة الفريق الدابي العربية، مهمة كوفي عنان، الأخضر الإبراهيمي.. إلخ)، فضلاً عن موافقتها على وثيقة جنيف 1 التي وقعت قبل عام ونصف، في ظل موازين قوى داخلية سورية مختلفة (رغم الملاحظات العديدة عليها)، والموافقة على المشاركة في مؤتمر جنيف 2 دون شروط مسبقة. (نشير هنا إلى أن المعارضات رفضت مبكراً كل تلك الجهود والمبادرات)، كما تضمنت المداخلة آليات واضحة وشاملة لكيفية حل الأزمة، استكمالاً لمبادرة هدنة حلب التي طرحها المعلم في موسكو عشية عقد مؤتمر جنيف 2.

هذا في الوقت الذي أظهرت فيه كلمة وفد (الائتلاف) (أو الأصح قسم منه) موقفاً متشجناً ومرتبكاً أولاً، وتجاوزاً للأعراف الدبلوماسية والسياسية ثانياً، وتعارضاً واضحاً مع توجيهات رئيس المؤتمر بان كي مون ثالثاً. وأكدت في الوقت نفسه، مرة أخرى، افتقار هذا القسم المشارك من (الائتلاف) إلى البرنامج والأهداف الكفيلة بحل الأزمة السورية.

أمام هذه اللوحة القائمة، بين التوازن والمرونة المبدئية السورية، والتشنج (الائتلافي) و(الانتقادات) و(التهجمات) من قبل ممثلي العديد من الدول المنشغلة سلباً بالأزمة، وبضمنها كلمة كيري نفسه، فإن تصريحات العديد من مسؤولي الوفد السوري (د. بثينة شعبان، د. فيصل المقداد، د. بشار الجعفري وغيرهم) فضلاً عن إعلان رئيس الوفد وليد المعلم، أكدت أن الوفد السوري يشارك في مؤتمر جنيف 2 بوصفه مدخلاً لحل الأزمة، وأنه جاهز ومكلف ومخوّل أيضاً بنقاش كل الآليات الكفيلة بوضع أسس لحل هذه الأزمة، في إطار السيادة الوطنية السورية، لتكون خطوة نحو الانتقال بالحوار السياسي إلى دمشق، بهدف مواصلته بين السوريين أنفسهم أولاً.

نطرح هذا لنؤكد حرص سورية على نجاح المؤتمر (ليس لدى أي سوري واحد وهم بأن جنيف سيقدم حلاً سحرياً لإنهاء الحرب الأهلية)، بوصفه مدخلاً للحوار والحل السياسي، وتالياً وقف نزيف الدم السوري أولاً، ومحاربة التكفير والإرهاب ثانياً، والتوقف عن تخريب البنى التحتية والمؤسساتية الوطنية والفردية السورية ثالثاً، والتوقف عن إشغال سورية بقضايا داخلية، أغلبها مصطنع ومخطط له، على حساب دورها الوطني والقومي رابعاً. وهذا ماأكدته كلمة الوفد السوري، استكمالاً لمواقف سورية من كيفية التعاطي مع سنوات الأزمة الثلاث، وأن الجديد يتلخص في بدء هذا الحوار، رغم الملاحظات الجوهرية على طبيعة الوفد (الائتلاف) (الذي رتبه المندوب السامي الأمريكي روبرت فورد، سفير الولايات المتحدة السابق في دمشق، حسب وصف المعارض الوطني هيثم مناع). وفي هذا السياق كنا نرغب في أن نرى مشاركة أوسع تشمل أطياف المعارضة المختلفة، وبخاصة الوطنية الداخلية، كما كنا نأمل في أن تقدم أوراق عمل محددة تمس جوهر الأزمة وأسبابها وكيفية الخروج منها.

وفي هذا الإطار نعتقد أنه بات مطلوباً، بعد انتهاء (الجولة الأولى) لمؤتمر جنيف ،2 أن تبدأ في سورية عملية حوارية واسعة مع المعارضة الوطنية أولاً، ومع الراغبين في المشاركة في هذا الحوار من المعارضين الوطنيين في الخارج ثانياً، وبخاصة هؤلاء الذين يرفضون التدخل الخارجي، ويدينون الإرهاب والتكفير، ويقفون ضد تدمير البنى التحتية والمؤسساتية السورية الوطنية والفردية أيضاً، ويرون في الحوار والحل السياسي أساساً صالحاً للتعاطي مع الأزمة وحلها.

فيما يبقى السؤال الهام أيضاً المتمثل في الضمانة المطلوبة من (المعارضة) ومن الدول المنشغلة بالأزمة السورية.. إلخ، حول موافقة المجموعات المسلحة التكفيرية أو التزامها بما يتفق عليه، أو على الخطوات (التفاهمية) الأولى، وتالياً الوقف الفعلي لنزيف وسفك الدم السوري، بوصفه المسألة الراهنة والأهم في كل ما تقدم، خاصة أن الكثير من هذه العصابات التكفيرية بأجندتها، قد صنّفت، ولو (نظرياً)، أمريكياً ودولياً، بأنها من إفرازات القاعدة وشقيقاتها، وما يعنيه هذا في سياق التعاطي مع الأزمة السورية وتبعاتها إقليمياً ودولياً أيضاً.

العدد 1105 - 01/5/2024