تفاؤل مشوب بالحذر!

عندما استقبل السوريون نبأ انعقاد مؤتمر جنيف 2 بنوع من الارتياح الحذر والمشروط، كانوا يستقون مقومات هذا الموقف من الواقع، واقع عمره نحو 3 سنوات.. فقد خسروا في هذه السنوات، الألوف المؤلفة من شبابهم ونسائهم وأطفالهم، ومورست بحقهم أبشع أنواع الإهانة للبشر بأحيائهم وموتاهم، حتى صارت بلادنا موئلاً لأكَلة لحوم البشر والمتلذذين بقطع الرؤوس ودحرجتها، وهُدّم قسم كبير من البنى التحتية التي شيدها شبابنا خلال العقود الماضية، وسُرق نفطنا وقمحنا، وفُكّكت معاملنا ونُقلت إلى تركيا.. لذلك كان من الطبيعي جداً أن يرحب السوريون بأي مبادرة للتسوية تحافظ على الدم السوري المهدور، وتعيد إلى سورية قوتها ودورها في محيطها.

ومما عزز مسحة التفاؤل التي علت على وجوههم هو أن القوى المحبة للسلام، مثل روسيا والصين والهند وإيران وباقي دول مجموعة (بريكس)، وقفت صفاً واحداً دفاعاً عن سورية، التي كانت على وشك التعرض لحرب عدوانية قذرة تشنها الولايات المتحدة وتركيا والسعودية وقطر وفرنسا وإسرائيل، مما أفشل مشروع العدوان، وأفسح في المجال أمام بذل جهود مكثفة لحل الأزمة السورية عن طريق إيجاد حل سياسي عبر جنيف 2.

ولقد كان القطار الذي يوصل إلى هذا الحل يسير بسرعة السلحفاة لأسباب عديدة، أهمها رغبة الولايات المتحدة في استنزاف سورية وقوتها العسكرية في حرب مستمرة ضارية ضد المجموعات الإرهابية.. بينما كانت تمد هذه المجموعات سراً وعلانية بالأسلحة والعتاد وبالمقاتلين (الجهاديين) عن طريق تركيا والأردن والسعودية ولبنان. وعندما استؤنفت المساعي السياسية، استماتت الولايات المتحدة لكي تكسب من ورائها ما خسرته عندما اضطرت إلى تجميد خطة عدوانها العسكري، وذلك بطرح مطالب تعجيزية تصل إلى حد التدخل الفظ في شؤونها الداخلية، وحتى في كيفية انتخاب رئيس الجمهورية، واختيار شكل  نظام الحكم ومحتواه.

ويمكن القول إن الولايات المتحدة قد وافقت على عقد مؤتمر جنيف مرغمة، لا بمحض إرادتها، بعد أن تنامى الضغط الدولي عليها، إثر تفشي وباء الإرهاب التكفيري، ووصوله إلى حدود أوربا، وتغيّر الأوضاع في مصر، والاضطراب في تركيا، والفشل في إثارة الفتنة المذهبية والطائفية في لبنان.

إن استبعاد هيئة التنسيق الوطنية وغيرها من قوى المعارضة الوطنية، عن حضور المؤتمر، كشف بوضوح التركيب الهش للمعارضة الخارجية، والبناء المتداعي لها، والارتهان التام لدوائر الاستخبارات الأمريكية التي تقرر مصيرها وتحدد سياستها. إن استبعاد هذه القوى كان عقوبة لها على مواقفها الرافضة للتدخل الأجنبي ولاستدعاء قوات عسكرية لضرب سورية. كما أن الرفض الشديد الذي قوبل به اقتراح دعوة إيران للمشاركة في المؤتمر، والإصرار على دعوة دول لا ناقة لها ولا جمل في الأزمة السورية، كل ذلك أعطى إشارات واضحة على التشدد الذي ستبديه الإدارة الأمريكية في المؤتمر، إذا استمر بالانعقاد.. ولكن وقائع الأيام الأولى للمؤتمر أثبتت أن بإمكان سورية المتحالفة بقوة مع قوى الحرية والسلام في العالم، أن تحبط الهجمات والافتراءات والمناورات الغربية ضمن المؤتمر، تماماً كما تغلبت عليها في فترة التحضير للمؤتمر.. لقد فشل الائتلافيون في الحصول على تفويض باقي أجزاء المعارضة بتمثيلهم في المؤتمر، وستبقى مشكلة تمثيل المعارضة في المؤتمر عالقة ومؤثرة على سير أعماله.

إن المؤتمر سيشهد نقاشات حامية حول تفسير بيان جنيف،1 وسيسعى وفد الائتلاف، بدعم أمريكي مكشوف، إلى الابتعاد عن بحث قضية مكافحة الإرهاب في سورية وفي المنطقة، والتركيز على بحث قضايا الوضع الانتقالي حالياً ومستقبلاً.. ولكن أي عاقل يعلم أن ما من دولة في العالم، يمكن لها أن تحل، بسلاسة، قضاياها الداخلية، إذا كان سيف الإرهاب والحرب والتدمير مسلطاً فوق رأسها، وإذا كان التدخل العدواني من الخارج مستمراً.

إن إصلاح الوضع الداخلي هو_برأينا_ ضرورة حياتية للسوريين، وحاجة موضوعية لهم، وليس مادة للمتاجرة أو للمزاودة.. إن التغيير السلمي الديمقراطي الذي يطمح إليه الشعب السوري، ليس له علاقة بالأهداف الخبيثة التي يتلطى خلفها عملاء الولايات المتحدة وأدواتها، بل هو إصلاحات ديمقراطية واجتماعية عميقة تعيد بناء سورية من جديد على أساس تعددي وديمقراطي.

إن حصيلة أعمال مؤتمر جنيف 2 حتى هذه اللحظة، تؤكد صوابية الموقف الذي اتخذته سورية، شعباً وحكومة، منذ البداية، والقائم على أساس السير في طريق الحل السياسي، ومقاومة الإرهاب والإرهابيين في الوقت نفسه. ومهما كانت الصعوبات التي ستواجه بلدنا في هذا المضمار، فإن الاستمرار بالصمود وتدعيم الوضع الداخلي على أساس ديمقراطي تقدمي، والاهتمام بمصالح الطبقات الشعبية، هو الطريق الذي يقود سورية إلى النصر التام على أعدائها في الداخل والخارج.

العدد 1105 - 01/5/2024