رد على مقالة «آن الأوان لرفع الغطاء عـن الإسلام الموروث»

 ينطلقُ السيد محمد شحرور في مقالتِه المنشورةِ في جريدة (النور) بتاريخ 9/3/2016 من مَثلٍ عربيٍّ هو (رُبَّ ضارَّةٍ نافعة)، ويستثمره في الحديث عن (داعش) فيرى أنَّها بمثابة ضررٍ كان نافعاً لإعادة النظرِ في الموروثِ الإسلاميِّ الذي يُعدُّ في نظرِه مسؤولاً عن إنتاج العنفِ الدينيِّ وتصديرِه إلى العالم.

وهو لا يُفرِّقُ بين أشكالِ هذا الموروثِ، بل يضعُه في كِفَّةٍ واحدةٍ هي التخلُّفُ الفكريُّ وإنتاج أمثالِ الدواعش مِن دعاة الفكرِ التكفيريّ. ولا أعرف كيف توصَّل السيد شحرور إلى هذه النتيجةِ القاطعةِ الحاسمةِ علماً بأنَّ هذا الموروثَ ككلِّ موروثٍ يضمُّ الغثّ والسمين، الصالحَ والطالح، الداعيَ إلى العنف والآخذَ بمنطقِ السِّلم والسلام.

ويهتبلُ السيد شحرور الفرصةَ ليعيدَ تصفيةَ الحساب مع الذين هاجموه حين أصدرَ كتابَه الشهير (الكتاب والقرآن) متهِّماً إياهم بأنَّ ردودَهم على كتابه استندتْ إلى النقل وإلى الموروث الدينيَّين، مع أنَّ أهمَّ الردودِ على كتابِه كانت الردودَ التي اعتمدتْ على منطق اللغةِ العربيةِ ومعاني دلالاتِ ألفاظِها في وجهيها الحقيقيِّ والمجازيِّ، وخاصةً كتابَ الأستاذ يوسف الصيداوي (بيضة الديك) الذي تجرَّد للردِّ على كتاب شحرور مِن واقع اللغة ومعانيها، حيث فنَّد كثيراً مِن النتائجِ والاستدلالاتِ التي توصَّل إليها شحرور بتحميلِه ألفاظَ اللغةِ العربيةِ معانيَ لم تُرشد إليها معاجمُ اللغة العربية قديمُها وحديثُها.

وبإمكان القارئ العودةُ إلى كتاب (بيضة الديك) ليتحقق من صحَّة ما أذهبُ إليه. وعلى كلٍّ، ليس هذا موضوعَ حديثنا الأساسيِّ، غيرَ أنَّ الأغربَ من هذا أنَّ السيد شحرور يرى أنه لا يوجدُ إسلامٌ معتدلٌ أو وسطيٌّ، وأنَّ الوسطيين سرعان ما ينقلبون إلى إرهابيين تكفيريين بمجرَّد أن يتولَّوا السلطة، أو أنَّ وسطيَّتهم تصبُّ في خدمة السلطةِ الحاكمةِ أي: بما يلائم مزاجَها ويدعمُ سلطتَها، فالوسطيةُ ما هي إلا مناورةٌ أو نفاقٌ كما يُستنتَج من كلامه. ثم يقول: إنَّ جميع الإسلامِ الموروثِ يستمدُّ مرجعياتِه من مصدرٍ واحدٍ، فالأزهر لا يختلف، في مرجعيته وفي اعتماده على الموروث، عن داعش، ممّا يدعونا لنطرح سؤالاً هو: لماذا إذاً كفَّرَ الأزهرُ (داعش) واعتبرهم جماعةً خارجةً عن الإسلام؟ أكان هذا مِن باب التقيَّةِ ومخالفةِ الظاهر للباطن أم مِن باب التَّضليل الإعلامي؟ ولماذا فنَّد العلّامةُ (رمضان سعيد البوطي) دعاواهم وكفَّرهم، أمِن باب التقرُّب إلى السلطان أيضاً أم لنفي الشُّبهةِ عن الذات؟

ثم يدَّعي السيد شحرور بأنَّ المسلمين ينظرون إلى كتب الفقه نظرةً مقدَّسةً، وأنَّ من يتجرَّأ على نقدِ ما كتبَه البخاريُّ او ابنُ كثير يُكفَّر، وهذا مِن أغرب الآراء؛ فأنا لا أعرف أحداً كفَّر مَن ينتقدُ البخاريَّ أو ابنَ كثير، وهَبْ أنَّ فرداً أو جماعةً عمدَتْ إلى ذلك، أفَنضعُ الموروثَ الإسلاميَّ في قفصِ الاتِّهام أم نضعُ المكفِّرين في مكانِهم الطبيعيِّ في مشفى المجانين؟ حسبُنا أن نتذكَّر في مجال حريةِ الرأي والاختلاف قولَ الإمام مالك: (كلُّ يؤخَذُ منه ويُردُّ عليه إلا صاحبَ هذا القبر) ويشيرُ إلى قبر النبي (صلى الله عليه وسلّم). وقد وردَ على ألسنة أئمةِ المذاهب أقوالٌ تؤكِّد كلُّها احترامَهم لآراء غيرِهم مِن مثل: (هذا ما وصلتُ إليه فمَن وجدَ خيراً منه فليضربْ بقولي عُرضَ الحائط)، ومِن مِثل: (قولي خطأٌ يحتملُ الصواب، وقولُ غيري صوابٌ يحتملُ الخطأ) فمِن أين أتى السيد شحرور بهذا القول عن تكفير المنتقِدين وما سنَدُه في هذا الادِّعاء؟

إنَّ السيد شحرور يعلمُ أنَّ الفقهَ الإسلاميَّ ذو طبيعةٍ تاريخيةٍ وقد تطوَّر مع المراحلِ التي مرَّ بها الإسلامُ منذُ عهدِ الخلافةِ إلى يومنا هذا، وأنَّ أحكامَه خضعتْ لهذا التطوُّر عملاً بالقاعدة الفقهية: (تغيُّر الأحكامِ بتغيُّر الأزمان). ولا شكَّ أنَّ الوقوفَ عند مُعطَياتِ الفقهِ في زمنٍ ما واعتبارَه صواباً مُطلقاً أو مفسِّراً أوحدَ للإسلام دونَ الأخذِ بمنطقِ التطوُّر، مجافاةٌ لأصول الفقهِ نفسِها التي تنصُّ على الاجتهاد وإعمالِ العقلِ فيما لا نصَّ فيه، وعلى التغييرِ المستمرِّ في الأحكام. وما دامت النصوصُ متناهيةً والأحداثُ غيرَ متناهية فإنَّ الاجتهادَ قائمٌ إلى قيامِ الساعة، ولا شيءَ ثابتٌ في الأحكامِ اللهمَّ إلا ما تعلَّق بالعبادات.

وعلى هذا لا تُعدُّ فتوى صدرتْ عن فقيهٍ في القرنِ السابعِ الهجريِّ ملزِمةً لنا نحن- أبناءَ القرنِ الخامسَ عشرَ الهجريّ- إلّا بما نرى فيها مِن مصلحةٍ لنا. بل إنَّ إجماع فقهاءِ بلدٍ على فتوى فقهيةٍ ما كان لِيُعدَّ إجماعاً ملزِماً لبقيَّة بلدانِ العالم الإسلاميّ وذلك مراعاةً لخصوصيةِ المكانِ والزمان. وبالعودةِ إلى (داعش) ومنظِّريها نقول: إنهم ليسوا من الفقهاء أو المسلمين أصلاً، وقد تبيَّن للناس جميعاً أنهم صناعةُ المخابراتِ الأمريكية والغربيةِ من أجل ضربِ الإسلامِ. ولا نُغالي إذا قلنا: إنَّ مِن أهداف خلقِ (داعش) في المنطقةِ العربيةِ محاربةَ الموروثِ الإسلاميِّ كلِّه، وتنفيرَ الناس منه بصفتِه المسؤولَ عن إنتاج الدواعش. والآنَ ندركُ لماذا وَجدتْ (داعش) حواضنَ لها في المناطقِ الأكثرِ تخلُّفاً وفقراً من وطننا، تلك المناطقِ التي قد يصعبُ على أهلها التمييزُ بين أشكالِ الموروث، وكذلك التفريقُ بين الإسلامِ الصحيح وغيرِ الإسلامِ لأسبابٍ تتعلَّق بالجَهل والفَقرِ والشُّعورِ بالغَبن، ولا أنعتُ الإسلامَ غيرَ الصحيحِ بالإسلامِ المتطرِّفِ. وحتى في هذه المناطق التي تعرَّضت لخداعِ (داعش) وأخواتِها رأينا نزوحَ الناس وبحثَهم عن ملجأٍ آمِنٍ بعد أن عايشوا الأهوالَ التي ارتكبتْها الدواعش باسمِ الإسلام، واكتشفوا انخداعَهم بهم. إنني لا آتي بشيءٍ جديدٍ إذا قلتُ: إنَّ أحكاماً وقضايا في موسوعةِ الفقهِ الإسلاميٍّ باتتْ لا تعني المسلمين المعاصرين بحالٍ من الأحوال، وأنَّ ما فيها من نظراتٍ متخلِّفةٍ يعكسُ حالةَ التخلُّف التي عاشتْها الشعوبُ الإسلاميةُ والعربيةُ على مدى قرونٍ، وأنه آن الأوانُ لرفعِ الغطاءِ عنها. لكنَّ التعميمَ شيءٌ يتنافى مع النظرة الموضوعيةِ.

لقد أنهى السيد شحرور مقالتَه وهو يدعو بصورةٍ لا تَخفى على القارئ إلى ترك السُّنةِ القوليةِ، والاعتمادِ على القرآنِ فحسب، مُحيلاً إلى قولِه (تعالى): (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي)، وذلك بعد إشارتِه إلى نهيِ الرسولِ (صلى الله عليه وسلم) أصحابَه عن الكتابةِ عنه، كما أنَّه ادَّعى أنَّ إطاعة الرسولِ هي في الشعائرِ والعباداتِ فحَسْب، وتطرَّق في سبيل دعمِ وجهةِ نظرِه إلى ما وُضِع على لسان الرسولِ مِن أحاديثَ قال عنها: (لا أساسَ لها من الصحَّة أساءتْ إليه رجلاً ونبياً ورسولاً). وأعتقدُ أنَّ هذا هو بيتُ القصيدِ مِن مقالةِ السيد شحرور، كما أعتقدُ أنه غيرُ موفَّقٍ فيما ذهب إليه؛ لأنَّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربِها قد فرغوا من مناقشة مسألةِ الاعتمادِ على الحديثِ الشريفِ كأصلٍ تؤخذُ منه الأحكامُ بعد القرآن.

بقيتْ مسألةٌ أشارَ إليها السيد شحرور وأودُّ مناقشتَها وهي: الشخصنةُ في الإسلام ويعني بها: تقديسَ الشخصياتِ الإسلاميةِ ولا سيما التي كانت لها بصماتٌ قويةٌ في التاريخ الإسلاميِّ كبعضِ الخلفاءِ أو القادةِ أو القضاة. والحقيقةُ أنَّ الشخصنةَ موجودةٌ لدى جميع الأممِ والدياناتِ وخاصةً أثناءَ الأزماتِ التي تمرُّ بها، وليس المسلمون بِدعاً في هذا الأمر، وهي لونٌ من الاعترافِ بأهميةِ الموهبةِ الفرديةِ أو (الكاريزما) كما يُطلَق عليها في الدراسات النفسيةِ في القيادة، والتأثير، وتسريع التحوُّلاتِ الاجتماعية، ولكنها أيضاً شكلٌ من أشكال ضعفِ الأمةِ، وتخلِّيها عن مسؤوليتِها الجماعيةِ، واتِّكالِها على الأفراد لصنعِ مصيرِها دون حسابٍ للعواقبِ الناجمةِ عن ذلك.

ومِن الإنصافِ التاريخيِّ أن نذكرَ للخليفة الراشدِ عمرَ بنِ الخطاب التفاتَه إلى خطورة الشخصنةِ في الدينِ وذلك عندما أقدمَ على عزلِ خالدِ بنِ الوليد عن قيادة الجيوشِ الإسلاميةِ في أوجِ معاركها مع البيزنطيين (معركة اليرموك)؛ لِما رآه مِن افتتانِ الناسِ به، وتوهُّمِهم أنَّ النَّصر لا يأتي إلّا مِن قِبَله. فكأنَّ عمرَ أرادَ أن يبعثَ برسالةٍ مفادُها أنَّ التَّعويلَ في الإسلام هو على المؤسسةِ وليسَ على الأفراد. وبالتالي فإنَّ التأكيدَ على الشَّخصنةِ تثبيطٌ للأمةِ عن التقدُّم الحضاريِّ الذي ركيزتُه الأساسيةُ العملُ المؤسسيُّ في جميع المجالات: السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ.

والخلاصةُ أنَّ الشخصنةَ ليست ناتجاً خالصاً من نواتج الموروث الإسلاميِّ بل هي من نواتج التخلُّفِ الراهنِ أيضاً تساهمُ به ثقافتُنا ومسلسلاتُنا، وأنَّنا نجدُ تجسيداً له في اُمَراءِ الجماعاتِ التكفيريةِ وفي بعضِ الدعاةِ الذين يتصدَّرون القنواتِ التلفازية؛ ولهذا فإنَّ الحاجةَ أصبحت ماسَّةً للمؤسسةِ الإسلاميةِ المستقلَّةِ التي يتمُّ في ظلِّها توحيدُ الفتاوى الفقهيةِ المُظهرةِ لوجهِ الإسلامِ الحقيقيِّ وسحبُ البساطِ مِن تحت فتاوى التكفيرِ والفقهِ الداعشيّ.

العدد 1107 - 22/5/2024