ثقافة المصالحة

لقد تمَّ منذ فترة ليست طويلة تعبيد أمتار عدَّة في طريق المصالحة، في أحياء دمشق وحمص وفي معظم المناطق السورية، تحت إشراف المحافظين ولجان المصالحة. وحققت هذه المصالحات النجاح بعد أن اجتازت عتبات كثيرة من العقبات والعثرات، للوصول إلى الاطمئنان والأمان وعودة السكان إلى بيوتهم غير المتضررة أو التي يمكن إصلاحها بسرعة.

لقد أفرزت الأزمة السورية ثقافات عدة متناقضة جداً من أبرزها: (الثقافة الوهابية والفكر الظلامي والعودة إلى قرون ماضية)،وثقافة سأطلق عليها  (ثقافة طَرق باب الحوار) التي بدأت تؤدي دوراً إيجابياً وتصبُّ في ساقية ثقافة المصالحة، التي بدورها تشكل أحد مرتكزات ثقافة المصالحة (المحلية) وصولاً إلى المصالحة الوطنية الشاملة على المستوى الوطني السوري.

أكَّدت تجارب الشعوب عبر تاريخها والتجربة السورية منذ قرون، أنه في الأزمات السياسية خاصة، تزداد الدعوات إلى ضرورة إجراء حوار وطني واسع وشامل، وبناء جسور المصالحة الوطنية بين أبناء الوطن الواحد. وتحتاج المصالحة دائماً على مستوى الأفراد والجماعات والأحزاب والدول، إلى وجود وسطاء يعملون على تقريب وجهات نظر الطرفين المتخاصمين وتقديم تنازلات حسب عمق المسألة التي تشكل عقدة الأزمة. وأن تكون المصالحة صادقة لا شكلية ظاهرية، وعامة شاملة دون إقصاء أو استثناء. وما يجري في سورية الآن من مصالحات يبعث الاطمئنان للمواطنين والأمان، بعد استبعاد الجماعات الإرهابية غير السورية،  أي مصالحة (سورية -سورية) لها أسبابها العميقة والجوهرية، وخلق مساحات مضيئة لترميم ما خرَّبته الجماعات التكفيرية الظلامية.

إن العوامل المساعدة التي تشكل المرتكزات الرئيسة لانتشار المصالحة على معظم مساحات سورية، هو وحدة النسيج الاجتماعي المتنوّع (تاريخياً)، وكشف الأهداف القريبة والبعيدة للتحالفات الإقليمية والدولية لتدمير سورية وتفتيها طائفياً وإثنياً، وتجربة سنوات ثلاث مريرة من سيطرة الإرهابيين في بعض المناطق، وتطبيق سياسات العصور الظلامية على المواطنين (كما في مدينة الرقة وقرى حلب وإدلب)، أدَّى ذلك إلى قيام تظاهرات احتجاجية لسكان تلك المناطق والمطالبة بدخول الجيش العربي السوري وفك الحصار وطرد المسلحين. ولا تعني المصالحة (التسامح المجّاني) مع الذين قتلوا وفجَّروا وخرّبوا، فهؤلاء يجب أن يحاكموا ويحاسبوا قانونياً وينالوا العقاب الذي يستحقونه.

ولا يمكن أن تؤتي المصالحة بين أبناء الحي الواحد والقرية الواحدة والوطن الواحد ثمارها، دون تلازمها – من حيث الجوهر -مع تطبيق العدالة وإعادة الحقوق إلى أصحابها، من الذين تجرَّعوا الآلام وهجّروا وقدّموا الشهداء ولا تزال جروحهم تنزف دماً وحزناً!وهذا يتطلب أيضاً تطبيق (ثقافة المساءلة)، بدلاً من ثقافة (الإفلات من العقاب) كي يعطي إحساساً بالأمان للمجتمع، ويوجه في الوقت نفسه تحذيراً لمن يفكّرون في اللجوء إلى حمل السلاح وتخريب المنشآت والمؤسسات العامة والخاصة. والأمر الجوهري في المصالحة بالنتيجة هو اتفاق بين طرفين أو أكثر، على تنحية الخلافات وتذليل العقبات وتفكيك بعض العُقد القائمة، وقبول الأمر الواقع والسير خطوة أو أكثر في طريق السلم الأهلي وإبعاد الأحقاد، ووقف القتال والتحارب ونزيف الدماء والعنف، وعودة الحياة إلى ما كانت عليه قبل ذلك.

إن ما يجري في سورية من أشكال المصالحات قد حقق إنجازات كبيرة، وهو الطريق السليم للوصول إلى المؤتمر الوطني الذي يجمع تحت سقفه الطيف السوري، بجميع مكوّناته الوطنية السياسية والدينية والقومية وجميع المخلصين، لإعادة بناء سورية الجديدة وتحقيق المواطنة وقوننة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحماية سورية من شرور الإرهاب والداعمين للإرهابيين (محلياً وإقليمياً ودولياً). وإنتاج ميثاق وطني حقيقي وعميق، وتشكيل حكومة وحدة وطنية موسعة ووضع خطة وطنية للمرحلة الانتقالية، ولمستقبل سورية المدنية العلمانية الديمقراطية التقدمية وتعزيز الوحدة الوطنية وثقافة الحوار والتعددية والحفاظ على القرار السيادي، وضد الفكر الطائفي وإقصاء الآخر، وأي تدخل في الشؤون الداخلية، ومن أجل بناء سورية الجديدة المزدهرة الآمنة.

العدد 1107 - 22/5/2024