الوحش الذي كُسٍر نَابُه

قبل رحيل الاتحاد السوفييتي، كان هناك خطان عالميان متوازيان، ومعسكران مختلفان في تناقضاتهما الأيديولوجية والاقتصادية والسياسية. وإذا تحرَّكت بارجة أمريكية، يتحرَّك مقابلها أسطول سوفييتي.

وكانت الولايات المتحدة، الدولة الإمبريالية الأولى في العالم، تتحكَّم في مصائر الشعوب في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وتنشر قوافل استخباراتها وعملائها في عشرات الدول، وتحوك خطط الاغتيال لرؤساء ومسؤولين.. وظنت نفسها (بعد غياب الاتحاد السوفييتي)، الدولة الوحيدة المهيمنة في العالم.. وبقيت (تُبعبع) وتصرخ وتنعت الدول النامية وشعوبها بالدونية، وتستهتر بمصير مئات ملايين البشر.. وتوزّع حناجرها على مفارق الطرق التي تربط القارات، باعتبارها (السيدة الأولى) في العالم، ولا يوجد من ينافسها كدولة تمثّل أعلى مراحل الرأسمالية المتطورة.

إن طريق السياسة الذي سلكته الولايات المتحدة وعبدته باستغلال  ثروات الشعوب في البلدان النامية، لن يستمر كما كان قبل عقود مضت، بل ازدادت العثرات فيه وتهدَّمت عديد الأرصفة وكثرت فيه الحفر.. وتتالت الأزمات المالية والاقتصادية، التي ما تزال مستمرة وهي في حالة تصاعدية ، وأبرزها الأزمة الاقتصادية التي بدأت في آب عام 2008 وطالت دولاً أوربية عديدة ولا تزال مستمرة، ولم تنفع الحلول المؤقتة،  كما في اليونان وإيطاليا.

ومنذ مطلع الألفية الثالثة لم تبقَ الحال الدولية كما كانت عليه قبل ذلك، فقد برزت دول منها (الصين وروسيا الاتحادية والهند وغيرها). بوصفها قوة اقتصادية وسياسية ضخمة موازية للولايات المتحدة . وظهرت مجموعة (دول البريكس) مقابل (الاتحاد الأوربي). ولم يعد البيت الأبيض هو (سيد البيوت) ولا هو الذي يقرر مصير العالم، خاصة بعد الهزيمة في العراق والصومال وأفغانستان.. وفشل المخطط الإمبريالي – الصهيوني في سورية والمنطقة، وتفكك تحالف الدول النفطية الملكية الثيوقراطية وقطع اليابسة والمشيخات المتناثرة على ساحل الخليج العربي وفي مياهه،خاصة بعد القرارات الأخيرة التي اتخذتها السعودية والإمارات العربية والبحرين وعُمان بسحب سفرائها من مشيخة قطر، وتبعتها الحكومة المصرية أيضاً. وأن دول مجلس التعاون الخليجي التابعة مباشرة للولايات المتحدة تتلقى التعليمات والتوجهات والقرارات من (أوباما وكيري). وما جرى مؤخراً بين واشنطن وموسكو من تصعيد في المواقف بشأن أوكرانيا وشبه جزيرة القرم. والتحدّي الروسي للتهديدات الأمريكية بفرض عقوبات على روسيا.. كلها مسائل هامة لن تؤدي إلى استيقاظ الولايات المتحدة من غفوتها، ومما تدّعي من أكاذيب مكشوفة وأنها (حامية الديمقراطية والمدافعة عن حقوق الإنسان)، وستؤدي هذه السياسة في نهاية الأمر حتماً إلى سقوطها في بئر الأوهام.

إن السفينة السياسية للولايات المتحدة المتنقلة في البحار والمحيطات، وبين موانئ العالم، بدأت تفقد المصداقية لدى أصدقائها، فهي تسعى وراء مصالحها ومنافعها وتحقيق ذلك بأي شكل وبأي أسلوب.. وكشفت الأحداث المتواترة في المنطقة أنها تتبع سياسة المراوغة والكذب وتعدد التصريحات وتباينها للمواقف السياسية التكتيكية والاستراتيجية. وأن الأزمة التي افتعلتها في (كييف) بالتعاون مع بعض الدول الأوربية، والحلول التي نادت بها ومحاولة جر أوكرانيا وإبعادها عن روسيا، لم تجد الطريق السالكة الذي تسير عليه لتصل إلى الميناء الآمن، خاصة بعد أن قررت شبه جزيرة القرم الانضمام إلى روسيا. ولن تكون الولايات المتحدة البديل عن الشعب الأوكراني. فالأوكرانيون هم الذين يقررون مصيرهم بأنفسهم، وهم الذين يرسمون سياساتهم ومستقبل شعوبهم . ولن تنجح الولايات المتحدة وحلفاؤها في زعزعة الوضع الأمني في منطقة البلقان، وخلق أزمة موازية للأزمة السورية. واتباع سياسة المقايضة (أوكرانيا مقابل سورية).

إن الرأسمالية المتوحشة الساعية إلى السيطرة على ثروات الشعوب، والداعمة للأنظمة الرجعية المتخلفة في الشرق الأوسط لن تصل إلى المراد. ولن تحقق مطامحها مهما حاولت أن تسيطر على القرار السياسي وتحتكره لصالحها. وأن الوحش الذي كُسِر نابه لن يقدر على تمزيق لحم الشعوب المناضلة من أجل تقرير مصيرها بنفسها وصد أي عدوان خارجي.

العدد 1107 - 22/5/2024