عضو «منصّة موسكو» في مؤتمر جنيف السيد فاتح جاموس في حوار خاص لـ «النور»: حزمة أولويات: الملف الإنساني.. وهزيمة الفاشية.. والتغيير الديمقراطي الشامل

نحو حوار وطني توافقي دون شروط مسبقة.. لحل أزمتنا الوطنية

لا بأس، وبعد زمن طويل جداً، أن أتيحت لي الفرصة للتعبير عن وجهة نظري وتيارنا (طريق التغيير السلمي) إلى صحيفة (النور) المنتمية لأحد الأطراف السياسية والتنظيمية الشيوعية في الساحة السورية، وهي أربعة أطراف أساسية، هي في خط الموالاة والمعارضة، ضربتها قوانين الأزمة الوطنية، وتسببت باختراقات وخلافات عميقة في صفوفها وكل منها لديه وسيلته الإعلامية، قياداتها جزء عضوي من النخب السورية بكل سماتها وعللها، مع أنها الأكثر حساسية وقدرة على التنبه والمراجعة كما هو مفترض، مع ذلك وحتى الآن لم تتنبه بالشكل الكافي إلى أهمية التطورات، وما فرضته عليها موضوعياً من مهمات أخرى عديدة وكبيرة مشتركة، غدت أكثر أهمية من قضايا الخلاف على الأزمة بذاتها، أذكّر مثلاً بأهمية ضغط العامل الاجتماعي المعيشي والطبقي لها كأطراف شيوعية، وكذلك أهمية وجود خطر فاشي محدق، ومعرفتي وثقتي أن الشيوعيين هم الأكثر حساسية وتنبّهاً لخطورة الفاشية أيضاً، وأنهم أصحاب فكرة الجبهة الواسعة لهزيمتها بنهج مستقل عن الديكتاتورية، بشجاعة كبيرة، وحيوية خاصة في تشكيل تلك الجبهة.

لكل ذلك، وعلى الرغم من معرفتي بمستوى الخلافات حول التغيير الديموقراطي والموقف من النظام القائم، مع ذلك هناك شرط موضوعي، أدعو لبدء الحوار وتشكيل نواة جبهة اجتماعية وسياسية للنضال مع صف العمل والقوى الشعبية التي تُسحَق يومياً، وكذلك لمواجهة الفاشية. ويستطيع بعضنا متابعة كفاحه من أجل التغيير الديموقراطي ومتابعة موقفه من النظام، كما يستطيع الآخر متابعة موقفه الآخر أيضاً، وعلى الأقل هناك ضرورة لبدء حوار بين الأطراف الشيوعية، فهل هناك جرأة، هذا نداء أدعوهم لسماعه والعمل بمحتواه، كما أتمنى أن يصبح التعبير داخل الوسائل الإعلامية الشيوعية كلها نهجاً من قبل قياداتها، وليس عملاً فردياً واستثنائياً ونادراً، أو بتوسّط ما.

* شاركتم في محادثات جنيف السورية- السورية الأخيرة، وكانت هناك تأكيدات على متابعة الجولة بعد شهر رمضان، لكن حتى الآن لم يظهر أي أفق لانطلاقها من جديد. هل يشير هذا إلى عدم جدية دولية في الحل السياسي في سورية؟

** الموقف الدولي، أو الأصح والفعلي، موقف الدولتين الراعيتين (واشنطن- موسكو) لا يقوم على أساس الجدية أو عدمها، بل يقوم على أساس مفهوم التوافق في لحظة وشروط محددة، التوافق في حدود الشكل والإطار والمحتوى، وهذا يعني أن هناك خلافات في الرأي وتناقضات وصراعاً بأشكال مختلفة، ويعني وجود حلفاء، مما يفترض دعماً لهم ولمواقفهم بشكل عام. وعلى العموم كانت موسكو ودبلوماسيتها هي من أطلقت فكرة جنيف ومنظومتها، ولا تزال في موقع الصدق والتوافق مع تلك المنظومة، بينما الصف الأمريكي ومركزه واشنطن يحاول بكل الطرق والوجوه وازدواجية المعايير تحسين شروط حصوله على أكبر نفوذ ممكن في سورية مستقبلاً عبر المفاوضات هذه المرة أيضاً، والتأخر الحاصل يفيد تأكيداً أن التوافق بحده الأدنى لم يحصل بين الدولتين لعقد الجولة الرابعة، خاصة أن المطلوب هذه المرة درجة بسيطة من التوافق في المحتوى حول المرحلة الانتقالية وأهم عناوينها. إن ذلك هو ما سيدفع العملية السياسية للاستمرار ولو بطيئة، بينما التوافق في الشكل والإطار فهما لا يفعلان سوى عقد الجولات بفوائد ضعيفة جداً.

* شارك في المحادثات، إضافة إلى وفد الحكومة السورية، كلٌّ من (وفد الرياض)، ووفدي منصة القاهرة وموسكو، وكنت أنت أحد أعضائها. هل يمكن اعتبار طروحات فريق (منصة موسكو) هي الأكثر موضوعية في مقاربة الحل السياسي للأزمة السورية، مقارنة مع وفد الحكومة السورية الذي أثبت أنه الأكثر وضوحاً والأكثر تنظيماً في العمل مع كواليس محادثات جنيف؟

** اعتقد أنه الأصح القول في الوفد الحكومي، عندما أطرح تقييماً أولياً مكثفاً حوله أنه: الأكثر تماسكاً وانسجاماً وتنظيماً، ولكل هذا أسباب محددة ليست دائماً إيجابية أبداً، ولست بصددها الآن، لكنه ليس أبداً الأكثر وضوحاً وشفافية، فنحن وفد (منصة موسكو) على الأقل تقدّمنا بمذكرة صريحة للوفد الحكومي، كذلك إلى (وفد الرياض)، بغاية فتح حوار مباشر أو غير مباشر علني أو غير علني، وحتى الآن لم نتلقَّ أيّ جواب على مذكرتنا، على الأقل كان بالإمكان القول نحن لا نستطيع البت بمحتوى مذكرتكم، وعلينا التشاور مع قيادتنا في دمشق، أو لا نريد أو نرفض التعاطي مع مذكرتكم، أو من أنتم وماذا تمثلون كي نتعاطى معها!.

أجزم من منظوري ووجهة نظري، وانحيازي بالطبع لوجهة نظر ومنظومة تيارنا (طريق التغيير السلمي) وجبهتنا (جبهة التغيير والتحرير) أن هناك أزمةً وطنية وانقساماً وطنياً عميقاً، وأن لا حل إلا بحوار وطني توافقي بين أطراف الانقسام التي تتبنى وجهة نظر الحل السياسي وليس العسكري، ودون أيّ شروط مسبقة، وبدءاً بمن حضر، والتوافق بين الأطراف التي تريد الاستمرار بالعملية وإنجاز خطوات التوافق، وضمانات بتنفيذها، مع التركيز على أولوية حزمة المهام التي فرضتها تطورات الأزمة، وهي في الاهتمام بالملفات الإنسانية، والصراع ضد الفاشية الأصولية لهزمها، والتغيير الديمقراطي الجذري الشامل والتدريجي، وكذلك من خلال محتوى كل الأوراق وتفاصيل الاقتراحات العملية التي تقدم بها وفد (منصة موسكو). أجزم بذلك أن وجهة نظرنا هي الأكثر موضوعية في مقاربة الحل السياسي، مع التأكيد دائماً أن كل ما تقدمنا به هو مادة للحوار كما هي وجهات النظر الأخرى، وأن الحل في النهاية هو توافقيّ وبَينيّ، كما هو القانون العام المطلق في حالة أزمة وطنية كأزمتنا السورية.

* ما مدى ارتباط معركة حلب بتأجيل المحادثات؟ وهل كان احتجاج روسيا الضمني على لسان نائب وزير خارجيتها على مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية السيد ستيفان دي ميستورا علاقة بموضوع الميدان السوري وتفعيل مبدأ (الأعمال العدائية).

** احتجاج روسيا المباشر أو الضمني على السيد ديميستورا، هو في الحقيقة احتجاج على واشنطن وتسويفها في عملية التوافق لعقد جولة محادثات جديدة، كما يبتغي القول إن الروس جاهزون لإطلاق المحادثات مع صفّهم التحالفي أو القريب لوجهة نظرهم وتفكيرهم، كما يبتغون أساساً تحفيز السيد ديميستورا لأخذ هامشه الذاتي في العملية، بالمزيد من الاستقلالية عن الطرف الأمريكي، لكن كل هذا صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً، والسيد ديميستورا يدرك أنه من دون توافق حقيقي في الإطار والشكل بين الدولتين الراعيتين، وكذلك في المحتوى ولو جزئيا فإن أي دعوة لجولة جديدة ستكون بنتائج بسيطة جدا، أو من دون نتائج.

وفي كل الأحوال كان (وفد الرياض) دائماً يضع شروطاً مسبقة في كل جولة محادثات، ويخلق تعقيدات ويقاطع، ودائماً تدعمه واشنطن والأطراف الإقليمية من الصف الأمريكي، ليبدو أنه الوحيد من المعارضة الذي يقود المحادثات- المفاوضات، وكانت المعارك الميدانية وأيّ تقدّم للجيش العربي السوري فيها ميدانياً سبباً في المماطلة ووضع اشتراطات والمقاطعة، وما يحصل في حلب الآن والتقدم الهام للجيش العربي السوري هو سبب في حجج وفد معارضة الرياض، مع تقديري أنه ليست هناك أي إمكانية في الحسم العسكري للأزمة السورية، بالتغاضي عما يجري في حلب.

* تبدو آليات العمل الدولية جليّاً أنها خاضعة لتبرير وقوننة النهج الأمريكي من منظور مصالحها السياسية، هل تعتقد أنه في هذه البيئة السياسية الدولية يمكن تحقيق خرق للمصلحة الأمريكية لصالح المصالح الوطنية السورية؟ والمثال هنا في مخرجات مؤتمر جنيف.

** نعم، أعتقد، وعلى الرغم من ذلك، أي على الرغم من النهج الأمريكي، أن هناك إمكانية لتحقيق اختراق في المصلحة الأمريكية لصالح المصالح الوطنية السورية العليا في الأزمة، حتى عبر مخرجات جنيف، وأرى ذلك في الإلحاح الروسي وصدقهم وصدق منهجهم في متابعة العملية السياسية من جنيف وعلى أساس منظومة جنيف. إصرارهم طوَّرَ في ملف المعارضة السورية التي يجب أن تحضر المحادثات، وطوَّرَ في أهمية الداخل المعارض ودور فعاليات المجتمع المدني، وخلق بداية منطق جديد في المحادثات، وساهم في خلق منظومة مصطلحات وتصورات هي الأقرب دون أيّ شكّ لمنظومة طريق التغيير السلمي في تيارنا وجبهتنا، وخلقت رأياً عاماً ذا تأثير في ضرورة استمرار المحادثات. كما جاءت بعدد من الوثائق الهامة للخروج من الأزمة… وكل هذا لا يغير بشيء أساسي، في وجهة نظر تيارنا ووجهة نظري (وليس بالضرورة وجهة نظر بقية أطراف جبهتنا)، حول أهمية الحوار الوطني الداخلي والمسار الذي سيرتسم له مقارنة بجنيف وأي محادثات في الخارج. ودون أيّ شك فإن هذا رهن بأن تتحول كتلة الأغلبية الشعبية والاجتماعية مع نخبها إلى قوة فعلية في الصراع.

* بعد الانقلاب الفاشل في تركيا، ما هي احتمالات تأثير التطورات الداخلية التركية، إضافة إلى علاقتها المستجدة مع روسيا، على سياق المسار السياسي في سورية؟ وهل تعتقد أن تصريحات المسؤولين الأتراك حول تحسين العلاقات مع دول الجوار هو تكتيك مرحلي لحكومة العدالة والتنمية أكثر منه فعلاً تغيّر في النهج التركي؟

** على كل وطني سوري الحذر الدائم والشديد من السلطة السياسية وقمة الهرم السياسي والنخبوي الحاكم في تركيا، وألا نفعل كقمة الهرم السياسي السوري، والدبلوماسية السورية ونكون غافلين كما حصل. إن استراتيجية الطاقم الحاكم التركي تجاه سورية ونهجه وخططه هي عملية تحدٍّ عميق ولا يمكن التخلي عن ذلك ببساطة. وعلى الرغم من أهمية الانقلاب ودلالاته حول المشاكل الداخلية في تركيا، وعلى الرغم من العلاقات الروسية التركية الجديدة، يجب ألا ننسى أن التناقض مع النهوض القومي الكردي في تركيا والنضال القومي الكردي هناك، وصولاً إلى السياسات الكردية الخاطئة عموماً في سورية، تبدو متناقضة مع المصالح التركية والقيادة التركية، وتشكل بمجملها شيئاً رئيسياً في تفكير القيادة التركية، ولن تسمح لنفسها أبداً في تخفيف الصراع بين الأكراد ورأس حربة الفاشية الأصولية في سورية (داعش والنصرة وغيرها) وستبقى تحاول تغذية ذلك الصراع كما يحصل في منبج، وستبقي دعمها اللوجستي للأصولية الفاشية في سورية، وكل هذا ضارّ جداً في الأزمة السورية وتطوراتها.

* تعتبر دوماً أن سبل نجاح الحلول السياسية لا بد أن يقوم على فكرة العمل في الحوار بمبدأ التوافق، هل يمكن أن يتحقق ذلك في ظل التناقضات الشديدة بين أطراف المعارضة فيما بينها، وبين المعارضة والوفد الحكومي؟

** بالتأكيد يمكن أن يتحقق، وسيتحقق، خاصة عندما يقتنع الروس أنه حان الوقت للضغط على النظام وإقناعه بضرورة الحوار الوطني الداخلي، وإطلاق مسار داخلي جديد مختلف كلياً عن نهج السلطة في احتكار إدارة الأزمة. وعندما تقتنع نخب الكتلة الغالبية الاجتماعية والشعبية أنه حان الوقت لرفع سويّات التنسيق فيما بينها ورفع الصوت عالياً أكثر من أي مرة سابقة لتتحول إلى قوة فعلية على الأرض، وفرض ذلك على النظام، وفرض عملية حوار وطني داخلي، وسلطة سياسية تشاركية وديموقراطية مختلفة كلياً وبعمق عما هو قائم. والوقائع التي حصلت في جنيف، كما المستقبل حتماً، هو للحوار التوافقي بمن حضر، وتنفيذ الخطوات التوافقية لمن يتوافق ويرغب، أما انتظار حضور كل الأطراف، وانتظار كل موافقاتهم فهو تمديد في عمر الأزمة والعنف والموت والملفات الأخرى الخطرة في حياة الشعب السوري.

* من أهم شروط نجاح العملية الحوارية التي تمثل عاملاً حاسماً في حل الأزمة والصراعات الداخلية، هو العامل الخارجي الذي يكاد يكون مفتوحاً كلياً على الأزمة السورية، وهو الذي يمنع نضوج أيّ محاورة على أساس المصالحة..  هل ترى من حلول يمكن أن تضبط هذا التمادي الخارجي؟

** لا حلّ جذرياً في ضبط هذا التمادي الموضوعي والذاتي الخارجي، إلا بحوار وطني داخلي جاد يأتي بسلطة سياسية مختلفة جذرياً. حوار جاد بين المعارضات السياسية خاصة الداخلية، والسلطة القائمة والمجتمع المدني. كذلك أرى الحل بشكل خاص إذا تمكنت الكتلة الاجتماعية الغالبية ونخبها أن تتحول إلى قوة فعلية على الأرض، وليست قوة كامنة كما هو حاصل، وهذا رهن بكفاح النخب التي تدّعي أنها تمثل مطامح تلك الكتلة وآمالها.

* أوضاع البنية السياسية السورية في الداخل، المؤطّرة منها والمستقلة، مستوى خلافاتها وانقساماتها، خاصة في درجة الارتباط بالخارج والوسائل المستخدمة، والاستقطابات التي تعمل عليها، تعطيها في المحصلة دوراً سلبياً بالمجمل، هل يمكن في ظل هذا المسار العام أن ينجح أي حوار داخلي، وأنت منذ بداية الأزمة تصرّ على أن مؤتمر الحل في سورية يجب أن يكون في دمشق؟

** أولاً: ليس دقيقاً وليس صحيحاً أن المعارضة الداخلية هي في وضعية ارتباط بالخارج، وأمرها على هذا الصعيد مختلف كلياً عن المعارضة المسلحة بكل أطرافها الفاشية، وكذلك لسان حالها في نخبها السياسية المباشرة أو التوسطية، فالأخيرة هي المرتبطة بالخارج فعلياً، وهي ستمثّل عبر إطاراتها التحالفية مصالحه ونفوذه في أي تسوية سياسية، وهذا أمر خطير للغاية. ومع كل الوضع الصعب الموصوف للمعارضة الداخلية وكذلك المجتمع المدني، فهناك إمكانية لنجاح وتحقيق اختراق لصالح حوار داخلي. أنا كنت ولا أزال أصرّ على أهمية الحوار الداخلي وفتح مسار خاص فيه، سيكون هو الأكثر أهمية وحسماً في الأزمة السورية ومقاومة التدخل الخارجي ونفوذه، خاصة الأمريكي فيه.

* تكملة للسؤال السابق، رغم مشاركتك في مؤتمرات جنيف وموسكو، لطالما أكدت أنه من الخطأ الشديد رهن العملية السياسية بمسار واحد، أي المسار الذي يوافق عليه الصف الأمريكي مع حلفائه، مثلاً مسار جنيف أو مسار فيينا، بل وكانت ولا تزال هناك ضرورة للبدء بمسار واحد هو دمشق، هل نجد هنا تناقضاً في أفكارك؟

** لا أعتقد أبداً أن هناك تناقضاً في مثل هذه الطروحات والخيارات، تطورات الوقائع الشاملة في كل الميادين، وطابع الانقسام الوطني السوري وتعقيداته، تؤكد أن ليس هناك مسار واحد للعملية السياسية، والمجتمع الدولي حتى الآن أكد اعترافه بعدة مسارات بعد محادثات المعارضة فيما بينها، مسار موسكو، مسار القاهرة، الرياض، آستانة، جنيف، فيينا. صحيح أنها لن تتتابع جميعها على النسق نفسه ، وأن بعضها ستتقدم أهميته، كما ستتأخر أهمية آخر، لكن ليس هناك مسار واحد وحيد، وهذا أكد أن المسار الذي يوافق عليه المركز الأمريكي ليس هو المسار الوحيد، وأن للروس دوراً هاماً جداً في المسارات الأخرى، كما كان لهم دور حاسم ولا يزال في مسار جنيف، في الشكل والإطار والمحتوى.                   

كنت ولا أزال أؤكد أن مسار الحوار الوطني الداخلي الجدي والفعلي سيكون له دور حاسم في الخروج من الأزمة، وفي تحقيق أفضل النتائج في مواجهة الفاشية وهزيمتها، وفي مواجهة النفوذ الخارجي الأمريكي وكامل صفّه. على الرغم من عدم إقلاع هذا المسار حتى الآن، وعلى الرغم من مسؤولية النظام الحاسمة في ذلك، لا تناقضات أبداً في إمكانية عمل هذه المسارات في الوقت نفسه، بالعكس يمكن أن يكمل كلٌّ منها غيرَه أو بعضَها، وأن يحفز أحدُها أو بعضُها بعضَها الآخر، وأن تخلق ديناميات فعالة للخروج من الأزمة، خاصة منها المسار الداخلي. إن من يعيق أو يمنع فتح مسار حوار داخلي وطني سيندم حتى من منظور مصلحته الضيقة، وهُمْ، بذلك، يهدرون الوقت ومن حصتهم من العملية التوافقية الديمقراطية الداخلية والخروج من الأزمة.

* على الرغم من أهمية تناولك مناقشة العديد من العناوين السياسية المتعلقة بالديمقراطية والتغيير، بقي هاجسك الأول هو مكافحة الإرهاب المسلح الذي تسمّيه اصطلاحاً(الفاشية الإسلامية)، أليس في هذا هروب من مبادئ لطالما طالبت بها سنوات طويلة، ودفعت ثمناً غالياً عنها؟.

** لو كنت نسيت، أو كنت سأنسى للحظة واحدة مستوى حضور مهمة الانتقال الديموقراطي الجذري والشامل كما التدريجي، وأهميته، وضرورة تغيير النظام سلمياً بنظام آخر تشاركي وتوافقي عبر حوار بين أطراف الانقسام الوطني وعلى رأسها النظام، لكنت فعلاً أهرب من تحديات لمهام وطنية جدّية. في العامين الأولين من الأزمة، كنت أعتقد أن مهمة التغيير الديموقراطي في مواجهة النظام سلمياً هي المهمة المركزية، لكن بعد تطورات الأزمة وظهور الفاشية الأصولية التي نبّهتُ مبكراً لخطورتها، كان يجب أخذ هذه التطورات بعين الاعتبار. مع الفاشية الفعلية بإيديولوجيتها الأصولية الدينية المذهبية والطائفية، وعلى يد الجهادية الوهابية، لا يوجد عاقل واحد يتوقف ويثبت عند المهام نفسها وأولوياتها، ولاعاقل واحد يتفرج وينتظر صراع الطرفين. المطلوب تقدير خطورة الفاشية، والاشتراك الفعال بمقاومتها وهزيمتها، مع الاستمرار الحتمي بضرورة النضال من أجل التغيير الديموقراطي، وهذا ما نسميه حزمة المهام التي تشمل ايضاً ملفات الأزمة الإنسانية والمعيشية وتقدير أهمية مواجهة الفاشية، وهذه الحزمة كفيلة بتحقيق المزيد من التغيير الديموقراطي الفعلي، بدلاً من انتظار الصراع والفرجة، أو دعوة الخارج للتدخل.

* ما تنتجه الأزمة السورية يشير بشكل حاسم إلى أن سورية لن تعود إلى الوراء كما كانت، لا بالمعنى التاريخي، ولا من المنظور الجيوسياسي، إن المعنى التاريخي لعدم العودة إلى الوراء ليس بالضرورة أن يكون إيجابياً بالمعنى التقدمي، بل يحتمل إمكانية لتطورات كارثية منها التقسيم الجغرافي، أو التحولات الديموغرافية العميقة. هل تعتقد أن مسألتي طرح الفيدرالية في سورية، وترافقها مع حركة نزوح هائلة لأجزاء من الجغرافيا السورية هو مؤشر سلبي للمستقبل؟ وهل هناك تصوّرات لتجاوز مسار مثل هذا؟

** إن طرح فكرة الفيدرالية الآن هو شيء خطير جداً وسلبي جداً في الأزمة الوطنية السورية. إن استغلال أزمة وطنية شاملة من قبل أي مجموعة ضيقة، ذات خصوصية، ودون الحوار والتشارك مع كل فعاليات الوطن، ومهما كانت الحجج، هو شيء خاطئ وخطير، سيترك آثاراً تناقضية وصراعية مع المجموعة القومية الغالبية، هو شيء براغماتي، غير مبدئي، هو شيء ذو طابع أساسي واستراتيجي يترك ويحفر عميقاً، هو شيء يُظهِر أن المسألة الكردية هي الأساسية والمركزية، وليس الأزمة الوطنية السورية، كما أن هناك تقديراً خاطئاً وخطيراً لدى النخبة الكردية الفاعلة لإمكانيات تحقيق أهداف خاصة في هذه الشروط. هناك مقاربة خاطئة، إذ لا تقدّر هذه النخب أنها تلعب بالنار وأنها تضع الشعب والأقلية القومية الكردية، أو القومية الثانية في سورية في حالة التناقض والقتال مع الجميع، اليوم هذا الطرف وغداً ذاك، وما بعده آخر. وأخطر ما يمكن هو ما سيترسب من تناقضات واحتمالات اشتعال صراع قومي بين العرب والأكراد في سورية مستقبلاً نتيجة التركيز على المسألة القومية الكردية، وإهمال الأزمة الوطنية السورية. ويزيد في الطين بلة، عمليات النزوح الديموغرافي التي حصلت حتى الآن، وتلك الخطرة المحتملة جداً مستقبلاً. التصور الوحيد أو شبه الوحيد لتجاوز مخاطر كهذه هو تنبّه الأصدقاء الأكراد لأهمية الأزمة السورية ومركزيتها ، وأن الموضوع الكردي فيها هو عنوان هام جداً، والكفاح الكردي فيها والتضامن العربي معه من أجل حقوقه القومية والثقافية والسياسية، وإلغاء أي اضطهاد في حقهم، كل ذلك هو عملية مركزية وطنية واحدة، كما كانت قبل الأزمة.

* نعلم أن مفهوم البرنامج السياسي الخاص بكل فعالية سياسية، ينطوي على مهمات مختلفة في مرحلة معينة، كمقاربة مفهومية في حالة الشروط الطبيعية للمجتمعات، له طابع حلولي للتناقضات الداخلية المحلية. أما المشروع السياسي فهو صيغة تاريخية عامة، صيغة مفاهيم واسعة لتوافق شعبي تحرضه الحاجة التاريخية عند حدوث أزمة وانقسام وطني عميق، وعدم القدرة على الحسم، وحصول دمار واسع. ويشترك في هذا المشروع غالبية الكتل الاجتماعية لوضع الأولويات ووسائل الخروج من الأزمة. هل تعتقد أن النخب الثقافية والسياسية في سورية كانت مؤهلة فكرياً وسياسياً وعلى مستوى المسؤولية لإنجاز مثل هذا المشروع حالياً، في ظل ما وصلت إليه الأوضاع في سورية؟

** سأتجاوز الآن قضية الحوار في مفاهيم البرنامج السياسي والمشروع السياسي، على الرغم من أهمية ذلك، خاصة في شروط وتطورات الأزمة الوطنية السورية، وسأركز على موضوع النخب السورية، دورها ومؤهلاتها في إنجاز مشروع سياسي وطني في هذه اللحظات الخطرة من تاريخ الأزمة والوطن السوري.

من المفترض بشكل عام، وعلى الرغم من الطابع التناقضي والصراعي البنيوي الذي يرافق التشكيلة الرأسمالية والنظام الرأسمالي في أي مكان، من المفترض أن هناك نخباً على مستوى وطني من مختلف الاتجاهات السياسية، ومختلف الانتماءات الإيديولوجية، موجودة فعلياً، ومتنبهة للمخاطر الكبرى المحتملة على الوطن، الجغرافيا والسيادة. متنبهة كذلك لقضية الدولة وأهميتها كإنجاز تاريخي، ووحدة الشعب الوطنية، وتقدم العصبيات المتخلفة… الخ، خاصة في لحظات وشروط قيام أزمات وطنية كبرى.

حتى في الأزمات الثورية وانقسام المجتمعات إلى طرفين متصارعين، هناك احتمال فشل الثورة وتراجع الشرط الثوري، ويجب أن تتنبه النخب الوطنية لفكرة بقاء الوطن، وذلك مهما كانت خلافاتها السياسية والعقائدية كبيرة وغير عكوسية، ومهما كان بعض أطرافها جذرياً في قناعاته الإيديولوجية. وهذا ينطبق على مختلف انتماءات النخب ما عدا تلك التي تندرج في إطار الاستثناء التاريخي بوجود نظم استثنائية، وخاصة الفاشية، أو الديكتاتوريات الفجة والشمولية بقوة، ماعدا ذلك يفترض أن هناك نخباً وطنية تتنبه للمخاطر، وتتنازل عن الكثير من برامجها السياسية، وطرق تفكيرها القصوية. إذ يجب أن يبقى وطن على الأقل، لنعود إلى التناقضات والصراعات، ربما بوسائل أرقى، وأنا أتبنى هذا المفهوم على الرغم من كل قناعاتي الشيوعية في قضايا الثورة والعملية الثورية والصراع الطبقي والسلطة والدولة..الخ.

مع تحول الحراك سريعاً إلى أزمة وانقسام وطني عميق، وابتعاده كلياً عن حقيقة الثورة والشروط الثورية، كانت النخب السورية قد قطعت أشواطاً إضافية مروّعة في انقساماتها وتشرذمها، وضعف الحس النخبوي الوطني المركزي، وضرورة التفكير بمشروع سياسي تاريخي للخروج من الأزمة، وقد فقدت هذه النخب الكثير جداً من لياقاتها ومؤهلاتها كنخب من أجل مشروع كهذا. مع البداهة المطلقة أنه لا بد من مشروع كهذا، مادام هناك أزمة وطنية غير ثورية، وغير قابلة للحسم بأي مستوى، ولا يزال هذا هو حال النخب السورية، بل هي أكثر سوءاً من ذلك (هي نخب اتهامية، متلطية، تعمل بالحقد والثأرية، لا تراجع نفسها، كل منها هو الصائب وغيره (كافر) كلياً، قمعية تجاه بعضها..) بينما تتفاقم الأزمة والانقسام. ربما هناك بعض آمال في مراجعات وتنبّه البعض من شتى انتماءات النخب، إلى ضرورة بدء حوار وطني غير مشروط، وتوافقي بين النخب للخروج من الأزمة أولاً، وثانياً لوضع بعض الأسس والمبادئ لميثاق وطني ومشروع سياسي وطني توافقي، لعودة القوانين الوضعية وابتعاد تأثير العصبيات المتخلفة، لعودة وحدة الوطن والشعب، ولعودة قوانين الصراعات الاجتماعية والطبقية والسياسية والثقافية والفكرية إلى عملها الوطني المركزي. وأعتقد أنه سيكون لكتلة الغالبية الاجتماعية ونخبها دوراً كبيراً في تجاوز الوضع والتأثير السلبي لمجمل النخب السورية في مختلف ميادين عملها.

حاوره: صفوان داؤد

 

 

العدد 1105 - 01/5/2024