الصراع العربي ــ العربي ومخاطر عسكرة المجال العام في الدول العربية

شهد الوطن العربي في القرن المنصرم معارك حامية الوطيس على مختلف الجبهات الخارجية والداخلية، في سبيل تحقيق الاستقلال والتخلص من النفوذ الأجنبي وبناء الدول الوطنية. وفي حين كان النضال من أجل الاستقلال محل إجماع من كل القوى السياسية في الوطن العربي، فإن السعي من أجل بناء الدولة الوطنية وإقرار نظام الحكم وشكله فيها كان محل اختلاف شديد بين اليمين واليسار في البلاد العربية كافة أدى إلى نشوب صراعات دامية في العديد من دوله.

هذه الصراعات اتخذت منحيين:

الأول – الصراع العسكري – المدني، بين قادة الجيش في البلاد العربية الذين خططوا للقيام بانقلابات عسكرية تقصي المدنيين من الحكم وتتيح لهم الحكم المباشر. وأسباب هذا الصراع كان دخول السياسة إلى الجيش، فأصبح طرفاً (سياسياً) في الصراع الدائر على الحكم، أو أطرافاً متعددة الأهواء يتربص كل منها بالآخر، عوضاً أن يكون الجيش مؤسسة وطنية لا علاقة لها بالسياسة الداخلية (النموذج اللبناني إبان الحرب الأهلية). أو أن يتحول الجيش إلى أداة في يد فريق سياسي ما يستخدمه لتحقيق مصالحه وللضغط على خصومه السياسيين (النموذج السوداني). وأخيراً، أن يستخدم الجيش مجموعة من السياسيين يتحرك من خلفهم وتكون كالدمى بين أيديهم (النموذج الجزائري).

ثانياً – الصراع الإيديولوجي بين اليساريين والقوميين، ثم الصراع الدامي في سبيل تحقيق الوحدة العربية بين الدول التقدمية التي قادها جمال عبد الناصر، والدول الرجعية بزعامة آل سعود حكام المملكة العربية السعودية، وقد أطلق عليه (الحرب العربية الباردة). هذه الحرب الباردة اشتبكت فيها قوتان، الأولى داعية إلى تحكيم الشريعة الإسلامية في كل مجالات الحياة انطلاقاً من مرجعيات فقهية وعقائدية توقف تطورها على أعتاب القرون الوسطى، والتي تهدد بتفكك الدول المركبة في المنطقة كما حدث في السودان، والثانية قوى تقدمية أرادت مواءمة التراث الديني والثقافي والعقائدي لسكان الوطن العربي على مختلف توجهاتهم بما يتناسب وروح العصر الحديث. لكن نموذج الوحدة العربية كما تصوره عبد الناصر والقائم على الحزب الواحد وعسكرة المجال العام في المجتمع، وعدم الاكتراث للتعددية الحزبية أو البرلمانية، بهدف إنجاز التنمية المستقلة عبر اتخاذ إجراءات اقتصادية واجتماعية ثورية ولغايات تتعلق برسم سياسته الخارجية. هذا الأمر جعل النخب السياسية من شتى الاتجاهات الفكرية والعقائدية في البلاد العربية تستخف ببناء الدولة على أسس دستورية وتشريعية صحيحة، وضربت بعرض الحائط العقد الاجتماعي الذي يجب أن يحدد أطر العلاقة بين السلطة والمجتمع، وأصبح هاجس السيطرة على مؤسسات الدولة هو هدفهم كي يحققوا الأهداف التي يؤمنون بها، ويؤسسوا المجتمع الذي يحلمون به.

عسكرة المجال العام في الدولة أدى إلى خلق أنظمة مستبدة عملت للحفاظ على نفسها بسفك دماء شعوبها، وطالبت أتباعها وأنصارها بالطاعة العمياء، وفي سبيل ذلك وضع استراتيجيات تعليمية وتثقيفية تهدف إلى خلق أجيال لا تفكر، لأن هذه الأنظمة تعتبر أن العلم والمعرفة سلاحان خطران يجب حجبهما عن مواطني دولهم. إضافة إلى ذلك عمدت إلى زيادة المظاهر الدينية ونشر بعض القراءات التي تشجع على السلوك الاستبدادي بدءاً من علاقة رب الأسرة بعائلته انتهاءً بعلاقة المستبد بأفراد شعبه، باعتباره رب الأسرة الكبيرة (مصر في عهد أنور السادات). وتسعى النظم الاستبدادية في سبيل إحكام قبضتها على الحكم إلى نشر الفساد والظلم واتباع سياسات تهدف إلى إفقار السكان وغض النظر عن مظاهر الرذيلة والانحلال الأخلاقي في المجتمع بهدف تحويل المواطن في دولها إلى عبد لنزواته وشهواته، بهدف القضاء على كل عزة نفس وكبرياء لدى مواطنيها.

عدم تمكن الدول العربية من بناء هوية وطنية يجمع عليها سكان كل دولة على حدة بعد استقلالها، والتناقض بين القومية والوطنية والهوية الدينية لدى سكان المنطقة، كان كالنار تحت الرماد ينتظر اللحظة المناسبة للاشتعال. فالوطني يحلم ويعمل لبناء دولة حديثة يعيش فيها الجميع، بعض النظر عن انتمائهم، تحت سقف القانون ويتمتع كل أفراد الدولة بصفة المواطن، بينما القومي يطمح إلى الهيمنة إن كان ينتمي إلى الأكثرية وإلى الانفصال إن كان يحسب من الأقلية، أما المعتنق للهوية الدينية فله قراءة خاصة لتاريخ المنطقة وأحداثها ونظرته الخاصة إلى شكل الدولة وطبيعة نظام الحكم فيها. والكوارث والفواجع التي أصابت البلاد العربية بعد عواصف (الربيع العربي) التي تهدد بتغيير جغرافية المنطقة كانت نتيجة تصادم هذه الأفكار التي أدت إلى سفك الدماء الغزيرة وأنتجت أحقاداً راكمت ثارات أدت في بعض المناطق إلى موجات من العنف والعنف المضاد قد تؤدي في نهاية الأمر إلى خروج المنطقة وشعوبها من دائرة التاريخ والجغرافيا.

العدد 1105 - 01/5/2024