الرهاب الذي تعانيه مجتمعاتنا من المرض النفسي

 يوصف العصر الحديث بأنه عصر القلق، باعتباره يتسم بتغيّرات سريعة وحادة ومفاجئة.. كما أنه مُثقل بأزمات وتغيرات اجتماعية واقتصادية وتقنية وفكرية متنوعة، وما على الإنسان المعاصر إلاّ أن يتكيف مع جملة هذه المتغيّرات وأن يلحق بها، وهذا ما يجعله دوماً معرّضاً للقلق والاغتراب والإحباط.

إلاّ أننا نجد في بعض المجتمعات تراثاً متنوعاً يتعلق بالأساليب التي تخفف من القلق والتوتر والعصبية الناتجة عن بعض المواقف أو الأحاديث التي نتعرض لها يومياً، مثل الترويح عن النفس والهدوء وتدليك الجسم والعضلات، وتناول بعض المشروبات والأعشاب مما يعود إيجاباً على الصحة النفسية للفرد، ويساعده على التخلص من  التراكمات النفسية، وعلى إعادة عمل دماغه ونفسيته بشكل صحيح في اليوم التالي.

ولكن، للأسف، على الرغم مما تعانيه البلدان العربية من أزمات وحروب وتشرد وقتل وفقر وتدمير، فإن الغالبية لا تزال ترفض أو تعترف بوجود شيء اسمه (اضطراب نفسي)، وعلى الرغم من الاعتراف به طبياً ووجود أطباء وأخصائيين يقومون بعلاج هذا المرض، إلاّ أن الغالبية، لاسيما في مجتمعاتنا، مازالت تعزو مختلف أسبابه إلى وجود الجن والسحر والشعوذة!

تعيش سورية اليوم أزمة قاتلة منذ أكثر من خمس سنوات، تعرض فيها المواطن السوري لأقسى أنواع العذاب النفسي، بسبب القتل، والتنكيل، والذبح، واستباحة النساء والأطفال، والتدمير، والتهجير، والفقر والجوع، إضافة إلى تفشي الاحتيال والنصب وغلاء الأسعار…كل هذه الأنواع من العذاب النفسي ستنتج لنا جيلاً يعد بأكمله ضمن لائحة (المتأزّم نفسياً)، وهذا ما يجعلنا بحاجة إلى رعاية نفسية تساعدنا على التخلص من براثن كل تلك الحالات التي عشّشت في أنفسنا.

ولكن بداية لدى الكثيرين مشكلة في الاعتراف بفكرة أن كلاً منهم بحاجة إلى معالجة نفسية ظناً منه أن هذه الجملة تعني أنه مختل عقلياً أو (مجنون)، إلا أن معناها يختلف تماماً عن (المتأزم نفسياً) أو (الشخص المتعرض لصدمة نفسية). فخلال سني الأزمة سمعنا عن حالات انتحار كثيرة، وجميعها كانت بسبب تعرض أولئك الأشخاص لصدمة نفسية حالت هذه الفكرة دون معالجتها، وانتهت بتراكم الأفكار السلبية والسوداوية، والشعور بالوحدة والظلم وتمنّي الموت، وانتهت بضعفه واستسلامه لتلك الأوهام التي كبّرها في تفكيره، فاستطاعت أن تغتال إرادته على المتابعة والاستمرار في هذه الحياة.

نتعرض يومياً لعشرات المواقف التي يحتفظ بها العقل الباطن لدينا والتي تجعلنا نتعرض لصدمة ما، أو تطرح في عقولنا الكثير من إشارات الاستفهام والتعجب، فنهملها، ولكن عقولنا ستستمر في الاحتفاظ بها، إلا إذا استطعنا التخلص منها وتفريغ ذاكرتنا من تلك الأحاديث أو المواقف التي صدمتنا، ويقول علماء النفس: (إن دماغنا يستطيع تخزين مليون معلومة في الدقيقة الواحدة من خلال حواسنا الخمس، إلا أنه يجب علينا مباشرة عند التعرض لأي موقف أو سماع أي حديث أو رؤية مشهد أن نطلق عليه مسمّى في عقولنا، لكي تحتفظ به ذاكرتنا ويصنف في ذلك الملف، وبالتالي يكون العقل الباطن ونفسنا قد تخلصا منه).

أما في مجتمعاتنا العربية، ونتيجة رفض الكثيرين الاعتراف بعلم النفس والمعالجة النفسية بسبب التخلف والجهل واعتناق الأفكار والعادات والتقاليد البالية وقلة الوعي في مثل هذه المواضيع، فإننا نرى الكثير من الأنماط والأشكال المختلفة من أشخاص ممن تعرضوا لمواقف وصدمات هم بحاجة إلى مثل هذه المعالجة، لكن ليس الغلط فيهم فقط، بل الغلط يعود على الأهل بالدرجة الأولى والمجتمع في الدرجة الثانية، فهو يخاف من نظرة المجتمع إليه على أنه (مختل أو مجنون).

العدد 1105 - 01/5/2024