الثقافة الوطنية.. واقع وتحديات

 موضوع الثقافة الوطنية، خاصة في المرحلة الراهنة، واحد من أهم المواضيع التي يجب أن تبحث وتناقش بعمق ومسؤولية، لأنه على ضوء تحديد مضمون هذه الثقافة، ووعي الدور الذي يمكن أن تلعبه، تتهيأ إمكانيات أفضل، وتحشد قوى أكبر، لمقاومة الغزو الأمريكي الجديد، هذا الغزو الذي يستهدف لا السيطرة الكاملة ولفترة طويلة على النفط العربي فقط، بل ويريد إعادة صياغة المنطقة سياسياً واقتصادياً وفكرياً لتتلاءم أكثر مع مصالحه واستراتيجيته، ولتكون أداة طيّعة تمكّنه من فرض شروطه على مستوى العالم.

ومن أجل تحديد جديد لمضمون الثقافة الوطنية، لابد من معرفة الأخطاء والنواقص التي شابت مسيرتها في المرحلة السابقة، فجعلتها قاصرة عن أداء دورها التاريخي. وباعتبار أن الأمر يعني كل من له علاقة بالهم العام، السياسي والثقافي، لذلك يفترض أن يساهم الكثيرون في إبداء الرأي، وأن يتحملوا عبء المسؤولية، لأن النتائج التي ستترتب من الخطورة إلى درجة تطول مصير الأمة وكل فرد فيها، وعلى جميع المستويات، كما وتؤثر على الحاضر والمستقبل معاً، مما يستوجب موقفاً واضحاً، وأيضاً تجاوزاً للخلافات الثانوية التي ميزت المرحلة الماضية بين أطراف يفترض أن تكون في خندق واحد.

ومما يزيد في أهمية الموضوع الآن وفي خطورته أن الثقافة بمعناها المتعدد والواسع هي الموضوع الأكثر إلحاحاً، وهي المستهدفة بالذات، خاصة بعد أن تعرضت الجبهات الأخرى العسكرية والسياسية والاقتصادية، للاختراق والتراجع. وباعتبار أن الثقافة تمثل الجبهة الخلفية والعمق الحقيقي لقدرة أي شعب على الصمود والاستمرار، لذلك سيُعمل الكثير من أجل شلّ فاعلية الثقافة الوطنية وارباكها، لتصبح عاجزة عن أداء دورها، خاصة أن الآخر يدرك ما للثقافة من قدرة وأهمية على الرفض والمواجهة، وعلى التحريض والتعبئة.

إن ثقافة أي شعب تمثل السمات الأساسية التي تكوّن وجدانه، وتعكس مدى صلابته، وتحدد كيف يفكر وكيف يواجه الأزمات، وأخيراً كيف يعبر عن موقفه، خاصة أن الثقافة لا تستطيع الهروب من المشاكل والهموم الحقيقية للناس، ولا التنكر لطموحاتهم وأحلامهم، كما أنها خير معبر عن الروابط الأساسية وتطلعات المستقبل أكثر مما ترتهن للطارئ والجزئي كما تفعل السياسة غالباً.

ولأن جوهر الثقافة الوطنية هو الوعي التاريخي للعصر والواقع معاً، وإدراك حقيقي للأخطار والتحديات، فمن خلالها إذاً نستطيع قراءة الأفكار وآمال المستقبل، ومن قولها الجهير أو الرامز تلتقط الهموم، كما نحس المخاوف، مخاوف الأيام القادمة، كما نقرأ من خلالها التحديات، وما يدبره لنا العدو لكي يوقع بنا، وهكذا تصبح الثقافة الوطنية مواجهة واسعة وكبيرة بين خيارين وإرادتين: خيار وطني دافعه الحرية والكرامة الوطنية ومقاومة التبعية، وخيار العدو الذي يريد الهيمنة والإلحاق والاستغلال، ومن خلال صراع الإرادتين تتحدد المواقف ويُحكم عليها، وبذلك تتجاوز الثقافة مجرد تسجيل المواقف أو البراعات اللغوية والأسلوبية، لأن حقيقتها تتجلى في رفض ما يريد العدو فرضه أو تكريسه، وفي انتهاج فعل مغاير لمسار الإلحاق والتبعية، وتحريض القوى الحية في المجتمع لكي تختار ما يعبر عن مصلحتها وطموحها.

إن الثقافة الاستعمارية التي سادت خلال فترة طويلة تحت عنوان وحدة العالم ووحدة ثقافته هي في الحقيقة سيطرة ثقافة القوي، المركز، وهي، في الوقت نفسه، إلغاء أو الثقافة الوطنية تهميشها، أو التعامل معها على أنها ديكور أو فولكلور.. واستتبع ذلك أن أصبحت الأفكار والأشكال والأساليب الأوربية وحدها المقياس، مما أدى إلى التباس المفاهيم واختلاطها، وإلى حالة متزايدة من التغريب والهجانة، كما أدى إلى تقلص دور الثقافة الوطنية أو تراجعه، ولذلك أصبحنا نواجه حالة مركبة وشديدة التعقيد، الأمر الذي يستوجب إعادة تحديد مفهوم الثقفة والمضامين التي يجب أن تحملها في مرحلة تاريخية معينة.. لا يعني ذلك، وكردّ فعل على ما ساد خلال فترة سابقة، رفضَ كلّ شيء غربي والانعزال، أو اعتبار الثقافة الأوربية بمجموعها ذات سمات واحدة أو توجّه واحد، لأن التنوع الموجود داخلها، والتعدد الذي يميز تجلياتها الإبداعية والفنية يملي علينا التفاعل والاختيار، شرط أن يتم ذلك في إطار تعزيز الثقافة الوطنية وجعلها أكثر حيوية.. هذا مع الإشارة إلى أن الاضطهاد الذي تمارسه الرأسمالية يطول أيضاً قسماً غير قليل من مواطنيها، مما يستدعي تجديد ثقافة المضطهَدين على مستوى العالم، وتأكيد نقاط الالتقاء في الفكر والممارسة.

حين نعتبر الثقافة بهذا الاتساع والامتداد ونجعلها هاجسنا الأول والأهم في هذه المرحلة، فإن الطرف الآخر، الخصم، والذي كان أوربياً خلال فترة طويلة سابقة، وأصبح الآن أمريكياً إسرائيلياً، ليس غافلاً عن أهمية الثقافة والدور الذي يمكن أن تلعبه، ولذلك يعتبر أن الهزيمة العسكرية لا تكتمل إلا بالهزيمة السياسية، ولا تتكرس الاثنتان إلى بهزيمة الإرادة، أي روح المقاومة والتحدي. وما دامت الثقافة تقوم بدورها الوطني، أي ترفض الاستسلام والتبعية، فإن أي نصر تحققه الآلة العسكرية يبقى مؤقتاً وقابلاً للإلغاء والتجاوز، ما لم ترافقه هزيمة فكرية كاملة ونهائية.

ولذلك فإن الهزيمة التي وقعت وما رافقها من تفتت وتناقض وتغيير في الأولويات، إضافة إلى الاحتلال والأحلاف والقواعد والتبعية الاقتصادية والسياسية، يراد الآن تحويلها إلى قناعة، وتكريسها أمراً واقعاً غير قابل لإعادة النظر.. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال كسر اليقين ووأد الأمل وإلغاء الحلم ومعه المستقبل، ولتحقيق هذه الأهداف لابد من تسييد أنماط التفكير والصيغ والعلاقات التي تفرز الهيمنة وتؤكد تفوق الآخر، وتجعل نموذجه هو النموذج الوحيد الذي يجب أن يسيطر، بما في ذلك اعتبار المال، أي الثروة، القيمة التي تحدد الموقع والأهمية، والنجاح الفردي هو الهدف، واقتصاد السوق هو المعيار، وهذه بنظره وحدها القيم الجديرة بالبقاء والقادرة على التفوق، أما القيم الفكرية والأخلاقية التي تدعو إلى العدالة والمساواة والحرية فإنها من مخلفات الماضي، ولابد أن تنتهي، وكذلك كل ما يتعلق بالهوية والكرامة الوطنية.

عبد الرحمن منيف

عن (قضايا وشهادات)

شتاء 1992

العدد 1107 - 22/5/2024