نزيف الدم.. ونزف الوطن!

ألمانيا.. السويد.. أو أي بلد أوربي آخر.. أمريكا.. حتى إفريقيا في بعض الأحيان، هي بلدان أصبحت الأمل المنشود لمعظم السوريين فالهجرة باتت برأيهم الحل الوحيد.

لم تكن ظاهرة الهجرة بالأمر الغريب عنا، وخاصة في السنوات العشر الأخيرة من عمر البلاد، فالسياسات الاقتصادية المتبعة عملت على إحداث شرخ كبير بين فئات المجتمع، فاضمحلت الطبقة الوسطى اضمحلالاً واضحاً، وازدادت معدلات الفقر لتشمل فئات جديدة من شعبنا، أما الأغنياء فازدادوا غنى.

وبات المجتمع السوري عامة، والشباب خاصة أمام مستقبل مجهول، وبدأت سلة المشاكل التي يعاني منها المواطن السوري تصبح أغنى وأكثف، فمن الفقر وعدم توفر فرص عمل تتناسب مع كفاءات الشباب وميولهم، إلى الأجور المتدنية، وانتشار الواسطات والمحسوبيات والفساد في معظم قطاعات البلاد والدوائر الحكومية، وممارسات بعض الأجهزة الأمنية وغيرها من أسباب يطول ذكرها، كلها عملت على دفع المواطنين إلى التفكير بالهجرة كأحد الحلول الأخيرة لمشاكلهم.

وفي ظل الأزمة الحالية التي تعيشها البلاد لم تعد الهجرة تقتصر على الأسباب السابقة، فقد ارتفعت نسبة الفقر إلى نحو 70% ونسبة البطالة إلى نحو 60% وخاصة لدى الشباب، وأصبح صوت الحرب هو الأقوى والخوف من المستقبل المجهول ومن حمّامات القتل والدم هو الأبرز، ومأساة النزوح تتمدد من منطقة إلى أخرى.

كل هذه الأسباب أثرت تأثيراً واضحاً على زيادة معدلات الهجرة، كما أن عولمة الغرب الثقافية التي حاصرتنا كان لها دور هام وكبير في تحفيز الناس للتفكير بالهجرة، فقد عملت على تصوير بلدان الشرق بأبشع صورة، صورة الدمار.. الحروب…الفقر والتخلف والتطرف الديني صورة البلدان التي لن تتقدم أو تتطور يوماً، دون ذكر أسباب هذا الدمار.. وذاك التطرف.

وعملت على إظهار الغرب على أنه الجنة الموعودة، والحل الوحيد للعيش بكرامة ووضع اقتصادي مريح، واعتمدوا بتأثيرهم هذا على الظروف السيئة التي تعاني منها البلاد من جهة، وعلى ضعف الانتماء الوطني من جهة أخرى.

بدأت المتاجرة بالسوريين، فتصدرت أخبار غرقهم في البحار والمحيطات أو اختناقهم أو اعتقالهم من قبل السلطات الأوربية ووسائل الإعلام، وأصبحت صورة لطفل سوري مهاجر غريق، ولا نستهين بحجم هذه المأساة، أهم من مئات الأطفال الذين يقضون في سورية بتفجيرات وقذائف تستهدف مدارسهم وشوارعهم وحدائقهم.

يحاول الغرب إظهار المسألة السورية باعتبارها مسألة لجوء أو هروب وهي خطة ممنهجة لإفراغ القضية السورية من أهميتها، فيسوّق لميركل كمثال على أنها الأم الحنون وملاك الرحمة للسوريين، ويجري الإعلان عن استعداد بعض الحكومات لاستقبال أعداد هائلة من المهاجرين السوريين، وتصبح دقائق الحداد على أرواح السوريين أساسية في بعض مباريات كرة القدم مثلاً وغير ذلك من الأساليب الرخيصة للضحك على عقول السوريين.

ورغم  ذلك نجد أن العديد من السوريين وللأسف غير واعين لما يحاك ضد سورية وشعبها، فقد فتنوا بالحلم الأوربي وغفلوا أو تغافلوا على أن هذه الدول لا تقدم هذه العروض والفرص لسواد عيونهم، تناسوا أو نسوا أن هذه الدول هي شريك أساسي في دعم التنظيمات المسلحة التي قامت بتهجيرهم وتنغيص حياتهم، وأنها ستستخدم أسماءهم كورقة للضغط السياسي على سورية في الفترات المقبلة. وباتت أي وسيلة لتحقيق حلمهم ذاك مشرعة، فيبيعون كل ما لديهم ويدفعون المبالغ الطائلة لتهريبهم بطرق غير شرعية ترتفع نسبة خطورتها مرات عن خطورة بقائهم، وخاصة أن أعداداً كبيرة من المهاجرين قد خرجوا من مناطق آمنة نسبياً، ولكن المغريات الأوربية قد غيبت العقل والمنطق لديهم.

إن سورية اليوم تقف على عتبة مرحلة مفصلية خطيرة، فخسارة هذا العدد من السوريين، وخاصة الشباب سيقوض الأمل ببناء المستقبل الذي تنتظره مع ما بقي من أبنائها، خاصة وأن الخسارة الأكبر هي في الكفاءات العلمية والخبرات، فالمغريات الغربية تقدم لهم أكثر من غيرهم باعتبارهم هدية جاهزة على طبق من ذهب.

كما أن الخطر الكبير سيكون بالتغييرات الديموغرافية للبلاد، فإذا استمرت الهجرة على هذا المعدل فسنتحول تدريجياً من بلد فتي يفتخر بقوته العاملة إلى بلد كهل يفتقر إلى الكفاءات وأصحاب المهن والاختصاصات المختلفة، وقد يضطر إلى استقدام العمالة الأجنبية لتعويض هذا النقص.

وعلى الرغم من الأهمية البالغة لمسألة الهجرة ومخاطرها إلا أنها لم تلق اهتماماً كافياً من قبل الحكومة، إذ بقي الحديث عنها بطريقة خجولة، ولم يسلط الضوء على انعكاساتها المستقبلية الكارثية على البلاد، ولم تقدم أي حلول أو أي خطوات جدية لتفادي هذه الظاهرة حتى تفاقمت ووصلت إلى هذا الحد الخطير.

إن تحسين الظروف المعيشية والاجتماعية للفئات المتوسطة والفقيرة سيقنع هذه الفئات بالبقاء في سورية رغم جميع المغريات التي يقدمها الغرب، فالتمسك بالأرض… والهوية يطغى على مشاعر هذه الفئات.

نحن نرى أن قيام الحكومة ببعض الإجراءات الإسعافية قد يساعد في تقليل هول هذه الكارثة، ومن هذه الإجراءات مثلاً: العمل على إعادة ما أمكن من المهجرين خارج سورية في دول الجوار إلى الأراضي السورية واحتوائهم وتأمين مأوى مناسب لهم وتأمين متطلباتهم واحتياجاتهم، ومنح المزيد من الدعم الحكومي على أسعار السلع الأساسية للأسر الفقيرة خاصة وتقديم الرعاية الصحية والاجتماعية لهم، والتراجع عن القرارات الصادمة برفع أسعار الأدوية وأسعار المشتقات النفطية الذي تسبب بارتفاع جميع السلع التي يحتاجها المواطن، تأمين فرص العمل للشباب في المناطق الآمنة، وبأجور تتناسب مع احتياجاتهم الأساسية، وزيادة رواتب العاملين والعسكريين بأسرع ما يمكن فالرواتب الحالية باتت غير مقبولة وستثير غضبهم.

كما أن تقدبم الدعم المادي لأسر الشباب الجامعيين قد يزيد من تمسكهم وإصرارهم على البقاء. إن التركيز على الأطفال وتعزيز شعور التمسك بالأرض والانتماء الوطني لديهم ومساعدة أهاليهم في تحمل نفقات دراستهم والعمل على إزالة آثار الحرب الوحشية والتهجير من عقولهم وزرع الأمل لديهم بمستقبل جميل يضمن لهم حياة كريمة كلها إجراءات نرى ضرورة تركيز الجهد الحكومي على تنفيذها.

 لم يعد السكوت عن مسألة الهجرة واعتبارها حالات فردية ممكناً اليوم فطموح الهجرة بات يتغلغل بشكل سرطاني في المجتمع السوري وستتحمل الحكومة المسؤولية الأكبر فيما لو تفاقم الوضع أكثر من ذلك إننا بحاجة إلى كل طفل وشاب وامرأة وكهل فمستقبل سورية لن يبنى إلا بيد أبنائها.

إن مطالبة الناس بالصمود يتطلب تأمين أبسط مقوماته . أما إعادة إنهاض سورية… فلن يحققه إلا أبناؤها في الوطن.

العدد 1104 - 24/4/2024