عند أي حد تقف الديمقراطية؟

ترى الأمم المتحدة أن حقوق الإنسان تقوم على مبدأ الديمقراطية لأنها تضمن الحق الانتخابي ونزاهته, وتحقق المساواة لجميع أفراد الدولة بغض النظر عن العرق أو الطائفة أو المستوى الاقتصادي.

ظهر مصطلح (الديمقراطية) في الفكر العربي للمرة الأولى في كتابات لأمين البستاني وعلي عبد الرازق في عشرينيات القرن الماضي, لكنه لم يصبح مُتداولاً إلا مع بداية الأربعينيات عندما خصّصت مجلة (الهلال) عدداً خاصّاً عن الديمقراطية، غير أن التعامل مع هذا المصطلح أكاديمياً وفي الأوساط السياسية بقي محدوداً في ظل سطوة السلطة وهيمنتها على المؤسسات الثقافية والإعلامية في العالم العربي.

نشأت الديمقراطية في الغرب، عبر صراع ثقافي واقتصادي واجتماعي وإيديولوجي طويل الأمد بين القاعدة الشعبية والملاكين. في حين أن البورجوازيات العربية لم تَخلق ثورة صناعية ولم تتطور عنها, بل نشأت عن تحولات ممسوخة للطبقات الحاكمة القديمة وأنتجت في أحسن الأحوال نظاماً شبه رأسمالي. هذا يفسر اختراق الروابط الاجتماعية التقليدية للروابط الطبقية والاقتصادية بل والتقدم عليها أحياناً. وظهر هذا في الأزمة السورية بوضوح بالغ عندما استطاع شيوخ (الثورة) قيادة طبقة الاقتصاديين والتجار والموظفين ذوي الشهادات وحتى الحزبيين من أحزاب مختلفة.

إنّ توظيف الدّين في السياسة لتحقيق أهداف سيطرة الإسلام السياسي على المجتمع، سوف يؤدي إلى سقوط الديمقراطية وإلى نتائج مدمرة على المجتمعات التي تسعى إلى ذلك. ورغم أن القوانين الناظمة في معظم الدول العربية تحمل أسساً ديمقراطية, إلا أنها على أرض الواقع عقيمة فعلياً عن إنتاج عملية ديمقراطية حقيقية, بسبب الخلط بين الديمقراطية السياسية، والديمقراطية الاجتماعية، فهذه الأخيرة قد ترتبط بمعايير ماقبل وطنية أو دينية طائفية معينة, ونموذج عن ذلك هو ما حصل في الثورة المصرية ضد الرئيس السابق حسني مبارك، التي أوصلت إلى الحكم محمد مرسي، الإخوانيّ. هذه النماذج من الديمقراطية الاجتماعية سوف تؤدي في نهاية الأمر إلى تأطير التنوع أو إلغائه, بالتالي إلغاء أحد أسس الديمقراطية وهو حق المساواة لطيف هذا التنوع. لذلك لابد من أن تترافق الديمقراطية الاجتماعية مع ضابط تفاعلي معها هي الديمقراطية السياسية الحزبية, التي تتجاوز معايير ما قبل الوطنية وتقبل بتداول السلطة.

في الديمقراطية الغربية نجد هناك إشكالية أخرى. لقد تطورت الديمقراطية الغربية بشكل هائل مع تطور النهضة الصناعية والتحولات الاجتماعية التي رافقتها، ونشأت تاريخياً، تعبيراً عن واقعٍ اجتماعيٍّ جديد، قادته البرجوازية الأوربية من جهة, وظهور الوعي القومي من جهة أخرى. وخلال النصف الثاني من القرن العشرين ومع هيمنة الولايات المتحدة على العالم, نشأ ما يعرف بالنيوليبرالية التي أعادت صياغة الديمقراطية بما يتناسب ومصالح القوى الاقتصادية الكبرى والرأسمال العابر للقارات, حتى يمكن القول إن النيوليبرالية هي تعبير فلسفي عن المصالح الأمريكية في العالم.

استندت النيوليبرالية من الناحية الإيديولوجية على المعيار البراغماتي للحقيقة (من منظور الغرب والولايات المتحدة)، ومن الناحية الاقتصادية على السياسات الأممية لصندوق النقد الدولي, المعروفة باسم سياسات ومعايير التكيّف الهيكلي. الديمقراطية هي العمود الفقري للنيوليبرالية وهي أسلوب لا غنى عنه لنظام الحكم. لكن في منطق النيوليبرالية الديمقراطية التي تحمل مفهومي الحرية والمساواة لا تدخل المساواة في النظام الاجتماعي وتعتبر أن المساواة هي هامش أساسي فيها وليست جوهراً. وبالتالي هناك انتقاص للديمقراطية فالمساواة بمعنى المساواة السياسية بين المواطنين هي جوهر الديمقراطية. لذلك نجد أن الديمقراطية الّنيوليبيرالية الغربية تعترف بمبدأ تداول السلطة في إطار النّخب الاجتماعية والاقتصادية التي تتحايث مع النظام الرأسمالي.

بينما عند الأغلبية ونقصد هنا الشعب مبدأ المساواة لا ينجح ويتم إسقاطه. كما أن القرارت الاقتصادية الكبرى محصورة ومُحتكرة بلوبيات الشركات متعددة الجنسيات العابرة للقارات. اكبر مثال عن هذه الحقيقة هي مفاوضات (TTIP) بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي التي بدأت عام 2013 وتنتهي عام 2020. هذه المفاوضات هي أهم وأضخم الاتفاقيات التي ستعرفها البشرية, لأنها تحصل بين طرفين يسيطران على نحو ثلثي الاستثمارات العالمية وثلث التجارة العالمية, ويشكلان أكبر كتلتين اقتصاديتين في العالم. هذه المفاوضات هي سرية وغير متاح للمجتمعات الأوربية والأمريكية الاطلاع عليها ولا يمكن النقاش فيها من قبل البرلمانات والحكومات المنتخبة؟. هناك الكثير من الأمثلة الأخرى التي تقودنا إلى الافتراض أن الديمقراطية في الغرب هي على المستوى السياسي والاجتماعي فقط، أما على المستوى الاقتصادي فالنظام الديمقراطي الغربي هو أقرب إلى الديكتاتورية.

في الخلاصة إنه ورغم التقدم البشري لا تزال الديمقراطية منقوصة وغير مكتملة, لكنها مستوى توفرها وممارستها فعلاً يبقى الأكثر سوءاً في العالم العربي.

العدد 1105 - 01/5/2024