موقوف يحنُّ إلى الزنزانة

هي دورة الحياة التي تؤكد أن لكلِّ شيء مرحلة بداية ونهاية، وما إن عرف موطني الأول بنمو مداركي وقدرة حواسي على التحمّل والتأقلم مع كل الظروف وأكثرها قسوة، حتى استعد لإعلان بداية لفظي خارج دائرة تكويني الأولى لتبدأ مرحلة الشتات.

موطني الأول، فضاءٌ رحب، كون متكامل، لا أنانية فيه، لا احتكار، موطن يمدني بفيض من الأحاسيس الجميلة الدافئة كدفء الحكايات التي تتدفق عليّ كشلالٍ رذاذه يبلّ عروق أحلامي فتورق أغصان روحي ببراعم تتفتّح عن موسيقا هادئة عذبة تريح النفس والعصب آن تُعزف.

 لم أشعر خلال فترة سجني في موطني الأول بلهيب يربكني ظاهراً وباطناً، لا نزق يسمُّ البدن، لا نكد يقصّر العمر، لا زمهرير يستوطن أصل العظم وينخره، ويحيلني كراقص (فلامنغو) أشحذ الجسد بالحركة لاستدعاء الدفء وتجنب تجمد الدم في العروق.

وطن أصغر من حجم الزنزانة، أنام فيه كإشارة استفهام، تكورتُ كي أتكيّف مع المكان، لم أشعر رغم ضيقه بالحاجة أو النقص، كل شيء يصلني بقدر معلوم، تكونت القناعة لديّ منذ بدء التكوين.

علاقتي مع السجّان علاقة جميلة مطلقة..كان خط الإمداد كأوتوستراد عريض لا تهدأ الحركة فيه ليل نهار يمدني بكل شيء، إنه الحبل السرّي.

مع بدء الإفراج عني وانتهاء محكوميتي انطلقت صرخة بكائيتي الأولى لتملأ كل مسامات المكان… الصرخة تنم عن نبوءة بحصول كارثة لي بدأت معالمها تتوضّح مع بداية قطع الحبل السرّي الذي وصلني بموطن التكوين.

 شمسٌ.. حرٌّ.. بردٌ.. حاجة.. تغيير مكان، وجوه كبيرة وعيون تزداد اتساعاً لتدقق وتتفحص بتأنٍ حال المُفرج عنه، كل عين ترميه لجهة التشابه للصور المخزنة في رفوف الذاكرة بقصد المقاربة والمطابقة ليس غير.

منذ ذلك الوقت بدأت رحلة اغترابي وعذابي، وجُنَّت مفاصلي من الركض المحموم، تسمع صوت صليلها وكأنه صفير قطار على أبواب التقاعد، ركض متواصل للحصول على ما يسد جزءاً من رمقي، بقصد إيقاف التآكل والتهالك الذي حلّ ببدني.

هامش:

قالوا: ( إنّ لبدنك عليك حقاً).

قلت: أين حقي كي أُعطي منه لبدني حقه المسلوب من الراحة؟!

العدد 1104 - 24/4/2024