أبو خلدون وسمات القيادة

يتوافق الناس في تراثنا على صحة القول (إن الكمال لله وحده). ومنه يخلصون إلى أن ذلك لا ينطبق على بني البشر. أي يختلفون في الآراء عند توصيف الأشخاص وتقييمهم، على اختلاف مواقعهم ومكانتهم، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وبلا شك فإن ذلك ينطبق على رؤية الذين عرفوا الرفيق أبا خلدون يوسف الفيصل. ولكنني أعتقد أن هناك صفات مثلى لازمت شخصيته، يتوافق عليها الذين عرفوه، ويقدرونها عالياً. وسأتطرق لبعضها، مما أعتقد أن فيها فائدة ومثال القدوة لمن يطّلع عليها، ومنها:

1- الثبات على المبادئ التي آمن بها مناضلاً صلباً طيلة أيام عمره. وإيثار الحزب، وأداء التزاماته تجاهه على أي شيء آخر. ولم يحل دون ذلك أي سبب، لا سبل العيش كمهنة الصيدلية، ولا ملاحقة السلطات والاعتقال، ولا تآمر الرجعية والغوغاء، ولا المناصب، وزيراً، أو عضواً في قيادة الجبهة. وفي سبيل تطوير دور الحزب وتجديده خاصم، وصالح، وعمل لتوحيد الشيوعيين.

2- الالتزام الوطني العالي الذي حرص على ترسيخه في سياسة الحزب الشيوعي السوري كأولى المبادئ والمنطلقات، والاستعداد للتضحية من أجلها. وتوثق أدبيات الحزب تطوعه ورفيق نضاله الرفيق أبو خالد دانيال نعمة للقيام بمهمة تنظيم المقاومة للاحتلال الصهيوني عندما هدد العاصمة دمشق أثناء عدوان حزيران.

3- الحرص الدائم على توثيق علاقة الحزب بالطبقة العاملة والحركة النقابية، والمشاركة في نضالاتها من أجل مصالحها ومطالبها. وتأكيد ضرورة أن تعبّر سياسة الحزب ومواقفه عن مصالح العمال والفلاحين ومطالبهم. وعمل أيضاً لتعزيز الروابط مع المثقفين. وكانت له علاقات وثيقة مع الكوادر الثقافية الوطنية في عموم البلاد.

4- ساهم الرفيق أبو خلدون في بناء التحالفات الجبهوية، فمثّلَ الحزب في لجنة صياغة ميثاق الجبهة، وحرص على تطوير عملها. ولكنه كان يوضح أننا لسنا حزباً في السلطة، بل نحن حزب مسؤول، وتنطلق مواقفنا من أننا حزب للوطن والشعب. أما مسؤولية القرار فيمارسها الحزب الحاكم الحليف، ونحن نعلن موافقتنا على ما نتفق عليه أو يلائم مصلحة الشعب والوطن، ويصون الوحدة الوطنية، ووحدة قوى اليسار. وفي الوقت نفسه ننتقد بكل الصراحة ما لا نراه يخدم الشعب أو الوطن، أو يلحق الضرر بمصالح الفئات الكادحة. وبعد اندلاع الأزمة التي ألمت بالبلاد، كان مقتنعاً أن هذه الصيغة السياسية يجب أن تتبدل باتجاه التعددية السياسية الفعلية، والمشاركة الواسعة والديمقراطية. وقد حمل مقترحات الحزب حول ذلك إلى قيادات البلاد، وهي تتعلق بالإصلاح السياسي والاقتصادي، والحوار الوطني، والحل السياسي الذي يصون البلاد ويحفظ استقلالها ودماء أبنائها.

5- قام الرفيق أبو خلدون بدور ريادي في توثيق روابط الأحزاب الشيوعية العربية وتوحيد مواقفها، وعمل على تنظيم لقاءاتها التشاورية الدورية، وساهم في لقاءات الأحزاب والمنظمات اليسـارية في منطقة الشرق الأوسط، مع روابط خاصة مع قيادة المنظمات الفلسطينية.

6- وأولى الرفيق أبو خلدون اهتماماً لتوثيق روابط الحزب مع الأحزاب الشيوعية العالمية ومع حركات التحرر الوطني العالمية، والتضامن مع نضالها لتحرير شعوبها. وحرص على روابط خاصة مع حزب لينين والاتحاد السوفيتي. واستحق وسام ثورة أكتوبر للصداقة مع الشعوب.

7- وإذا كان أبو خلدون يهتم بالقضايا الكبرى فهو لا يغفل عن القضايا المحلية. وأذكر أنني كتبت مقالة قصيرة عن حماية البيئة في محافظة السويداء في صحيفة الحزب (نضال الشعب)، فجاءني يقول : يجب أن نهتم كثيراً بمثل هذه الأمور التي ترتبط بحياة الناس في مختلف المناطق.

8- ولأن الاجتماع الحزبي عنصر أساسي في الحياة الحزبية، فقد كان أبو خلدون يحرص على نجاحه من خلال التحضير له. فيبدأ الاجتماع بمادة محضرة بإتقان، ويستمع بإصغاء لجميع الآراء، ويخلص إلى الاستنتاجات، ويصوغ مشاريع القرارات، ويحدد المهام الكفاحية بوضوح.

9- وفي افتتاح أبي خلدون أحد اجتماعات المكتب الفكري للجنة المركزية، تحدث عن أهمية العمل الفكري في نضال الحزب. وشملت مداخلته إحاطة عن اهتمام لينين بالعمل الفكري، وعن تقديمه على مجالات أخرى من النضال. ثم أشار إلى أهمية تفهم الماركسية وقراءتها وفق ظروفنا المعاصرة. وعرض بعض القضايا التي يفضل أن يهتم بها المكتب.

10- ومهما تعقدت الأمور، واختلفت الآراء يحافظ أبو خلدون على اتزانه وهدوئه، فلا تلمح على محياه علائم الغضب، ولا يرتفع صوته، ويحتفظ بالتركيز على الموضوع الأساس، متجاوزاً التفاصيل، ولا يتردد في بلورة وطرح القرار الحازم.

11- وفي كل الأوقات كان أبو خلدون قادراً على أن يقدم تحليلاً سياسياً معمقاً لتطورات الأحداث، وتحديد اتجاهاتها، والعوامل المؤثرة فيها داخلياً وعربياً ودولياً، وموجهاً إلى المهام التي على منظمات الحزب العمل عليها. مؤكداً أهمية النضالات الطبقية والمطلبية.

12- وعندما تقدم العمر بالرفيق أبي خلدون تقدم إلى المؤتمر الحادي عشر باقتراح إلغاء أحد مواد النظام الداخلي، المتعلقة بانتخاب رئيس للحزب عند الضرورة، موضحاً أنه لا ضرورة لبقاء هذه المادة في ظروفنا الحالية. ومعروف أن الأمر يتعلق بشخصه كرئيس للحزب. وقبل المؤتمرون اقتراحه وقوفاً مع التصفيق تقديراً له.

13- وفي الختام يمكن القول: إن أبا خلدون كان أحد الرجال القادة، والمناضلين الكبار في تاريخ سورية الحديث، من أجل حرية الوطن وتحرره وصون استقلاله، ومن أجل تنميته وتقدمه، وفي سبيل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية.

العدد 1102 - 03/4/2024