اختلال العالم أم اختلال الليبرالية الجديدة ونخبها؟

دخل العالم الألفية الثالثة بأمل ضئيل وكثير من التوجس، إذ ظلت الوعود التي قطعها زعماء الدول الغنية في قمة الألفية بشأن تخفيض نسبة الفقر والبطالة، وإعفاء الدول المفقرة من الديون وخفض الاحتباس الحراري، ظلت حبراً على ورق، بينما لاحت نذر أزمات مالية وحروب مدمرة غير مبررة، مثل تلك التي شهدتها تسعينيات القرن الماضي، وكثرت نبوءات المحللين الليبراليين الجدد بشأن أزمة الحضارة الغربية وانحدار القيم واختلال العالم، دون إشارة إلى طبيعة الأزمة ومسببيها.

وكان الفيلسوف البريطاني برتراند راسل (1872-1970) قد كتب مقالاً بعنوان (أخلاق الحرب) قبل قرن ونيف (عام 1915)، انتقد فيه سياسة بلاده الخارجية وحربها غير المبررة، وسجن بسبب ذلك لمدة ستة أشهر (عام 1918)، ودافع في المقال نفسه عن الحروب الاستعمارية الاستيطانية باعتبارها تخدم الحضارة، وفي هذا تناقض واضح مع نزعته السلمية وقعت فيه نخب كثيرة ماضياً وحاضراً، ثم تراجع عن أفكاره، وأنشأ محكمة لمجرمي الحرب، ورأى أن منطقاً مختلاً يكمن في خلفية الحروب بشأن أسبابها ودوافعها المعلنة والخفية.

ويذكر القراء ندوة عقدت في الكويت قبل أربعة عقود بعنوان (أزمة الحضارة العربية)، رد الفيلسوف اليساري مهدي عامل على أطروحاتها المتهافتة بمحاضرة عنوانها (أزمة الحضارة أم أزمة البرجوازيات العربية) بيّن فيها مسؤولية النظام العربي الرسمي التابع بتركيبته شبه الإقطاعية ونمط إنتاجه الربوي ونخبه النفعية، عن الأزمات والهزائم المتلاحقة والحروب بالوكالة التي أنهكت الدول العربية، ولم تفلح هذه التركيبة في تحديث مجمعاتها، أو تحقيق تنمية متوازنة أو تطوير تعليم يدفع بالتنمية قدماً، ولم تفسح في المجال لانتقال سلس إلى دولة مدنية عصرية ذات اقتصاد منافس، وظلت المجتمعات العربية وبناها المخلّفة بيئة خصبة لانتشار الظلامية والتطرف. وقد استشهد مهدي عامل ونخبة من قيادات الحزب الشيوعي اللبناني بسبب أفكارهم العلمانية وتحليلهم المنهجي الماركسي لطبيعة البورجوازيات العربية والبورجوازية اللبنانية خاصة.

 وسنعرض في السياق نفسه منطقاً مختلاً وتحليلاً تلفيقياً لأزمة الحضارة الغربية، ورد في كتاب أمين معلوف المعنون (اختلال العالم، حضارتنا المتهافتة) كتبه بالفرنسية أوائل الألفية الجديدة، وصدر عن دار غراسيه بباريس، وترجمه إلى العربية ميشيل كرم وصدر عن دار الفارابي ببيروت عام 2009 وكانت الدار قد أصدرت أعماله المنشورة كلها بترجمة لعفيف دمشقية.

 معلوف روائي فرانكوفوني من أصل لبناني، وصحفي سابق في جريدة النهار، وعضو في الأكاديمية الفرنسية التي تضم أشهر مثقفي فرنسا منذ عام 2010.

درس علم الاجتماع في جامعة القديس يوسف الفرانكوفونية ببيروت، وغادر لبنان عام 1975 ليقيم في باريس، واهتم بالدراسات الاقتصادية والتاريخية، وبخاصة تاريخ منطقة البحر الأبيض المتوسط.

ضم كتاب (اختلال العالم) ثلاثة فصول وملاحظة استنتاجية. عناوين الفصول: الانتصارات الكاذبة- الشرعيات الضالة- اليقينيات الخيالية، وعنوان الخاتمة: عهد سابق للتاريخ مفرط في الطول.

تحدث معلوف في الفصل الأول عن التواشج الحضاري الذي ساهم بإعلاء قيم إنسانية عالمية في فترات ومراحل عديدة، وحين استقوت حضارة واحدة ودمرت ثقافات الآخرين مهدت لانحدارها، ولفت إلى التشوش والانتصار الكاذب اللذين نتجا عن الثورة الرقمية، وعن تفرد شرطي عالمي بقيادة العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وعن حالة الحصار التي سادت بعد أحداث 11 أيلول في العالم كله، وسخر من عدم صدقية الإدارة الأمريكية وزيف ديمقراطيتها، فكل انتخاب رئاسي في أمريكا يتحول إلى تمثيلية استعراضية نفسية عالمية (ص97-103).

وميز في الفصل الثاني بين الشرعية المحلية وشرعية (الدولة الحامية العظمى) ودعا إلى الاستفادة من نماذج ناجحة لبناء الدول المستقلة، مقارناً نموذج كمال أتاتورك الناجح في تركيا بنماذج لزعماء متحمسين وصادقين لكنهم لم ينجحوا في قيادة بلدانهم، مثل مصدق في إيران، ورضا خان في أفغانستان، وعبد الناصر في مصر، وسوكارنو في إندونيسيا.

ورأى معلوف أن انفراد الولايات المتحدة بإدارة العالم بعد أحداث 11 أيلول أفقد النموذج الأمريكي شرعيته، وخلق أزمات رعب واهتزازات اقتصادية جمة، ومثّل لأمريكا بركة ولعنة (ص191).

 وفي الفصل الثالث تحدث معلوف عن فقدان الاتجاه في العالم، ودعا إلى اختراع كل شيء من جديد: التضامنات والشرعيات والهويات والقيم والاتجاهات، وحسن التعامل مع التنوع والبيئة والمعارف والأدوات والقدرات (ص200-201).

ورأى أن الاستقلال الفكري يكون بالبعد عن السياسة، لأن الخلاص يكون بالثقافة وببناء إنسانية جديدة لا تزوغ في ضلالات الماركسية، ولا ترتهن سياسياً للغرب (ص209) وحذر معلوف من الأخطاء المحدقة بالعالم مثل (الاحتباس الحراري، الحمائية الضارية، وحضور الأنانية المقدسة) ورأى وهو الجالس على (كرسي فوق السين)- وهو اسم كتاب سجل فيه وقائع رحلته الصاعدة إلى عضوية الأكاديمية الفرنسية- إن أمام البشر خيارين إما الانفجار أو التحول (ص298).

بعد فيض من المعلومات والوقائع، وبعيداً عن التحليل المنهجي، يصل معلوف إلى استنتاجاته التي تأرجحت بين التوصيف والوعظ والعمومية التي تنتقد كل شيء ولا تغني أحداً، وأكد هذا التأرجح في رؤية أخطار وكوارث وجرائم حرب علنية بالقول: ما يحدث لنا ليس نتيجة إخفاقاتنا، بل نتيجة نجاحاتنا وطموحاتنا المشروعة وعبقريتنا (ص293). العلم موثوق به ومشكوك بقدراته، فهو حيادي خلقياً، وهو في خدمة الحكمة (حيناً) وفي خدمة الجنون (أحياناً)- ص301، الحديث عن ابتعاد التجربة الأوربية عن قيمها الإنسانية والحضارية (الحريات، واحترام كرامة البشر، وتطبيق الشرعية الدولية) وبيان تراجع جاذبيتها من جهة، وامتداحها من جهة أخرى، والحديث في مكان آخر عن شرعنة زعامة أميركا ومديح الرئيس أوباما من جهة أخرى.

وختم أمين معلوف في معرض مواجهة اختلال العالم والحضارات المتهافتة بدعوة وعظية إلى التحلي بالحكمة والصفاء الذهني والحمية والغضب المتوهج (ص308) دون أي إشارة إلى وسائل توطين هذه السمات وتعميمها، وطرائق ممارستها كي تؤثر إيجابياً على مطابخ القرارات!

لم يتحدث معلوف عن توحش الليبرالية الجديدة، وتغوّل نخبها المالية والعسكرية على المؤسسات المدنية الأوربية والأمريكية، وهو لفت إلى أمرين مهمين لكنه لم يفصل في آثارهما الكارثية على الدول والشعوب النامية، الأول: روح التمييز العنصري كلية الحضور في عالم اليوم، عن سوء نية أو مع أفضل النيات (ص235)، والثاني هناك رغبة غربية ساذجة في تمدين الآخر، نازعتها دائماً وقاحة إرادة استعباده (ص240).

ولم يتحدث معلوف عن إفقار دول وعن مليار ونيّف من الجياع والمحرومين من أبسط مستلزمات العيش بسبب نهب بلدانهم من جانب الشركات العملاقة، ولا عن ثقل الديون الخارجية وعن تغطية الغرب لحكومات فاسدة، واجتذاب نخب البلدان النامية وسرقة عقولها.

لا أعتقد أن ظهور أمين معلوف الجالس على (كرسي قرب نهر السين) في مقابلة على شاشة إحدى القنوات الإسرائيلية يفيد في تغيير وجهة نظر حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تجاه احتلال الأراضي اللبنانية والسورية، أو تغيير تجاهلها للقرارات الدولية بشأن إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، وأقدر أنها تخدم رؤية المستعجلين للتطبيع مع إسرائيل.

لعل كوارث الشرق الأوسط واختلال السياسات التي انتهجها الغرب إزاء المنطقة ودولها ومؤسساتها والتدخل العلني في شؤونها الداخلية- تظاهراً بحل مشكلاتها وتمويل جهات مسلحة ومدنية لتفكيك الدول وإسقاط للأنظمة، والتدمير المنهجي للبنى التحتية بذريعة (مكافحة الإرهاب)- دفعت مثقفين غربيين وعالميين إلى الاحتجاج على خطل السياسات الغربية، وكنا نتوقع من نخب عربية متأوربة أن ترفع صوتها احتجاجاً على السياسات الغربية المختلة وتوحش حكوماتها.

وأكد أمين معلوف انحيازه للنظرة الأوربية المتعالية تجاه الدول النامية وشعوبها المفقرة، وخصوصاً الدول التي استعمرتها فرنسا، ففي روايته (التائهون) نلمح شخصيات نخبوية يتمركز كل منها على نجاحه الشخصي، وهو منخلع عن واقعه، تائه في بلدان بعيدة، وبقي لديه حنين نوستالجي إلى مسقط رأسه.

وفي حواره مع قناة إسرائيلية مؤخراً ثارت مناقشات حامية حول تذبذب موقفه، ونظرته العمومية أو الاستعلائية إلى حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، ولم يحتجّ مرة على احتلال إسرائيل للأراضي اللبنانية والسورية والفلسطينية، وكأنه يود أن يظهر بمظهر الفرنسي الأصيل عضو الأكاديمية، واللبناني المولد والذكريات القديمة ليس غير.

العدد 1107 - 22/5/2024